خلال الاجتماع السنوي لجمعية المزارعين الأميركية انتقد رئيسها، "بوب ستالمان"، ما أسماه "النخبة الغذائية"، التي "تبدو مصرة على مغالطة المستهلكين وتضليلهم"، وبالطبع كان رئيس الجمعية يعني بكلامه تلك الحركة المتصاعدة في الولايات المتحدة التي تدعو إلى ممارسات زراعية أكثر احتراماً للمستهلك وأكثر التزاماً بمعايير الاستدامة البيئية، والتي تشكك أيضاً في الصناعة الغذائية المتغولة في أميركا، وعندما يُنعت أحدهم في أميركا "بالنخبوية"، فذلك يعني أنه يتعرض لانتقاد لاذع، وشخصياً تعرضت للعديد من الانتقادات لا لشيء إلا لأني عملت طيلة السنوات السابقة على فضح ممارسات الشركات الغذائية والزراعية الكبرى في أميركا وكشف تلاعباتها واحتكارها للدعم الحكومي على حساب المزارعين الصغار، فضلاً عن تصنيع الغذاء على نحو يضر بصحة الأميركيين، فمنذ صدور كتابي "أمة الوجبات السريعة"، وأنا أتعرض لهجمات اللوبي الزراعي الذي تارة ينعتني بالنخبوي، وتارة أخرى بالاشتراكي، وطوراً آخر بالكاره لأميركا، والأمر لا يقتصر على ما أقوم به، بل يمتد إلى محاولات أخرى لفضح الصناعة الغذائية مثل الوثائقي الذي أنجزه "روبي كينر" وغيرها من الجهود المبذولة لتوعية الشعب الأميركي بطبيعة الغذاء الذي يأكله، والحقيقة أن هذه الانتقادات القاسية والشخصية التي يشنها أرباب الصناعة الغذائية والزراعية في أميركا ضد كل من يحاول دق ناقوس الخطر، ما هي إلا محاولات يائسة للتهرب من النقاش الحقيقي حول السياسات الزراعية في هذا البلد. وتأتي بنتائج عكسية، فمعروف اليوم لكل باحث ودارس للنظام الحالي في إنتاج الغذاء المعمول به في أميركا أنه قائم على مركزية الإنتاج والطابع التصنيعي المحتكر من قبل قلة من الشركات التي تسيطر عليه والمفرط في اعتماده على المبيدات الحشرية والمخصبات الكيماوية والمواد المضافة، فضلاً عن مواد معدلة وراثياً، وإنتاج الغذاء داخل المختبرات، ناهيك عن الدعم الحكومي السخي واستخدام مفرط أيضاً للوقود الأحفوري، هذه بخلاصة هي أهم ثوابت صناعة الغذاء في أميركا التي تحوله إلى ممارسة غير ديمقراطية من جهة وضارة بالصحة وشروط الاستدامة من جهة أخرى. فعلى مدى الأربعين سنة الماضية تغير نظامنا الغذائي أكثر مما كان عليه طيلة 40 ألف سنة من تاريخ البشرية، حيث دخلت مواد جديدة لم تكن معروفة مثل الذرة المعدلة وراثيًا والحيوانات المستنسخة، وهي بالطبع لم تكن موجودة إلى غاية السبعينات من القرن الماضي، كما أن الاحتكار الكبير لهذه الصناعة في يد قلة قليلة من الشركات لم تكن موجودة وقتها. فعلى سبيل المثال، كانت أربع شركات في السبعينات تتولى ذبح 21 في المئة من قطعان الماشية والأبقار في أميركا، أما اليوم فقد قفزت تلك النسبة إلى 85 في المئة تقوم بها شركات أربع، والمتضرر من كل ذلك هم المزارعون الصغار في أميركا الذين يعانون من شدة المنافسة وتراجع الدخل، إذ في الوقت الذي كان يحصل فيه المزارعون الصغار على 32 سنتاً من كل دولار يدفعه المستهلك الأميركي لشراء منتجاتهم لا يحصلون اليوم سوى على 16 سنتاً عن كل دولار، وفيما اضطر العديد من المزارعين الصغار إلى القبول بوظائف ثانوية فقط للحفاظ على أراضيهم يحصل المزارعون الأغنياء وكبار ملاك الأرض في الولايات المتحدة على الجزء الأكبر من الدعم المالي الفيدرالي. فبين عامي 1995 و2009 منحت الحكومة الفيدرالية 250 مليار دولار إلى المزارعين الأميركيين خصص ثلاثة أرباع المبلغ لأغنى الأغنياء الذين لا تتجاوز نسبتهم 10 في المئة، وهؤلاء هم من تمثلهم جمعية المزارعين الأميركية التي تدافع عن مصالحهم، وتنتقد كل من يحاول تسليط الضوء على حقائق لا يعرفها المجتمع الأميركي حول الصناعة الغذائية والمنافسة غير المتكافئة بينهم وبين صغار المزارعين، وقد امتد تأثير الاحتكارات الكبرى في الصناعات الغذائية على العاملين في المجال، فخلال السبعينات كان عمال تغليف اللحوم وتصنيعها هم الأعلى من حيث رواتب القطاع العمالي ليحصلوا اليوم على أضعف الرواتب، وبسبب تزايد مطاعم الوجبات السريعة في أميركا انخفض أجر العاملين في المطاعم التي كانت أكبر مصدر للحد الأدنى من الأجور في أميركا. وفيما تراجع دخل العمال في قطاع الصناعة الغذائية بسبب الاحتكار وتسلط أربات الشركات، فإن المستهلك يدفع الثمن من صحته، لا سيما شريحة الأطفال والفقراء والملونين الذين يتضررون أكثر من غيرهم، فعلى مدار الأربعين سنة الماضية تضاعف معدل السمنة لدى الأطفال قبل المدرسة، أما في أوساط الأطفال ما بين 6 و11 سنة فقد تضاعفت نسبة السمنة بثلاث مرات، وبالطبع أثبتت الدراسات الطبية اليوم العلاقة الوطيدة بين السمنة والأمراض الخطيرة مثل الربو والسرطان وأمراض القلب والسكري، وبحسب الإحصاءات الصحية، يعاني ثلثا الأميركيين البالغين من السمنة أو الزيادة في الوزن، كما أن خبراء اقتصاديين من جامعتي "كورنيل" و"ليهاي" قدرا بأن السمنة مسؤولة عن ارتفاع تكلفة الرعاية الصحية في أميركا بنسبة 17 في المئة سنوياً، أو ما قيمته 168 مليار دولار، هذا بالإضافة إلى المواد المستخدمة في علف الحيوانات، التي تُعرض لحومها على المستهلك، فقد صدرت دراسة في الشهر الماضي بإحدى الدوريات العلمية تُحذر من أن نصف اللحوم المعروضة في السوق حالياً قد تكون مصابة ببكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية بسبب الإفراط في إعطاء الحيوانات مضادات حيوية لمنع الأمراض ومساعدتها على النمو، وهو ما يتسرب إلى لحومها ويؤثر سلباً على صحة المستهلك. ولمواجهة هذه الحقائق العلمية والمعطيات الخطيرة التي تكشف عنها الدراسات ويشير إليها الدارسون في مؤلفاتهم وفي وسائل الإعلام، تسعى الشركات الغذائية والصناعة الزراعية إلى تعمية الشعب الأميركي من خلال متابعة كل من ينشر صوراً لمزارعهم بدعوى أنه غير مرخص للتصوير في مزارعهم، فيما الهدف الحقيقي هو ألا يعرف الأميركيون ماذا يأكلون. ------- إيريك شولسر كاتب أميركي متخصص في الصناعة الغذائية ومؤلف كتاب "أمة الوجبات السريعة" ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"