عندما حل الرئيس الأميركي في شهر نوفمبر من السنة الماضية ضيفاً على الهند، تحدث بكثير من الحماس عن الفرص الكبيرة التي تنتظر الشركات الأميركية في الهند، وعلى رأس تلك الفرص خطة الحكومة الهندية لشراء 126 طائرة مقاتلة لتسليح قواتها الجوية وتجديد أسطولها من الطائرات. ولا شك أن هذه الخطة مثلت أكبر صفقة هندية في المجال العسكري منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كما أنها إحدى أكثر الصفقات جذباً للشركات والدول المصنعة في العالم بالنظر إلى قيمتها التي تصل إلى عشرة مليارات دولار. وللفوز بالصفقة وضمان رسو العطاء الهندي على شركاتها استخدمت الإدارة الأميركية نفوذها السياسي ومارست قدراً كبيراً من الضغط على الهند كي تحظى شراكتها بأفضلية في سباق الفوز بالصفقة الكبرى مع نظرائها الأوروبيين الذين قدموا هم أيضاً عروضاً لتزويد الجيش الهندي بالطائرات المقاتلة. ولم يتردد أوباما نفسه في الإلقاء بثقله مدافعاً عن الشركات الأميركية من خلال رسالة مكتوبة وجهها إلى رئيس الوزراء الهندي، مانموهان سنج، في شهر فبراير من السنة الجارية، مشيراً فيها إلى التكنولوجيا المتطورة التي لا يمكن لغير الشركات الأميركية التوفر عليها، مؤكداً أن الطائرات التي ستحصل عليها الهند لا تُقدم عادة إلا لأوثق الحلفاء وأكثرهم قرباً إلى الولايات المتحدة، وأضاف أوباما في الرسالة أنه بالنظر إلى التكنولوجيا فائقة التقدم للطائرات الأميركية فإنها ستفوق توقعات الجيش الهندي، ولن يجد أفضل منها لتعزيز قواته الجوية. والحقيقة أنه بعد الصفقة التي أُبرمت بين الهند وأميركا في مجال التعاون النووي المدني تعتبر صفقة الطائرات المقاتلة أكبر تحديث لسلاح الجو الهندي، سعت الولايات المتحدة إلى الظفر بها. هذا التشوق الأميركي للفوز بالصفقة هو ما يفسر الصدمة القوية التي شعرت بها الشركتان الأميركيتان اللتان تقدمتا بعروض إلى الحكومة الهندية، وهما طائرة "سوبر هورنت-18" التي تصنعها شركة "بوينج" وطائرة "سوبر فايبر-إف 16" التابعة لشركة "لوكهيد"، عندما فشلتا في الفوز بالصفقة ورُفض عرضهما من قبل الحكومة الهندية. ويشار إلى أن الجهات المختصة بالسفارة الأميركية في نيودلهي تلقت رداً نهائياً خلال الأسبوع الماضي من السلطات الهندية بالاعتذار وعدم الموافقة على العرض الأميركي لتخرج الشركتان الأميركيتان من حلبة المنافسة. الهند تبحث بالأساس عن طائرات مقاتلة متعددة الأغراض، ونظراً لحجم الصفقة والعدد الكبير للطائرات المطلوبة استغرقت عملية المراجعة التقنية للعروض وفحصها للتأكد من مدى مطابقتها للاحتياجات الهندية زهاء السنتين. وأخيراً رفعت القوات الجوية تقريراً إلى الحكومة الهندية حول الشركات الست المنافسة والعروض المطروحة وتقييمها لكل عرض على حدة، بمن فيهم الشركات الأميركية التي أخفقت في الحصول على الصفقة، وبعد التقييم الدقيق لمواصفات العروض المتعددة استقر رأي القوات المسلحة الجوية على شركة "داسو" الفرنسية المصنعة لطائرة "رافال" واتحاد الشركات الأوروبية المعروف باسم "يوروفايتر" المنتج لطائرات "تايفون". وبالطبع سرعان ما عبرت الولايات المتحدة عن خيبة أملها، لا سيما وأن إدارة أوباما كانت تعول على صفقة الطائرات المقاتلة مع الهند لخلق الآلاف من الوظائف للأميركيين. ومباشرة بعد معرفة الخبر قدم السفير الأميركي لدى الهند، "تيموثي رومر" استقالته معللاً ذلك بدوافع شخصية وعائلية، هذا في الوقت الذي أصدرت فيه السفارة الأميركية بياناً أعلنت فيه خيبة أملها من خسارة صفقة الطائرات. لكن رفض العرض الأميركي، يشير إلى شيء واحد مهم أن بلداً بحجم الهند، لا يعقد صفقات بناء على اعتبارات سياسية، أو بضغط من الخارج، بل على أساس الحقائق والمعطيات الواقعية، فرغم كل الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على الهند جاء الرفض الهندي، ليثبت أن المصالح القومية للبلاد تفوق سواها من الاعتبارات الأخرى. ولعله من أسباب الرفض الهندي للعرض الأميركي احتمال فرض أميركا بعض الشروط الصارمة لإتمام الصفقة مثل مراقبة الطائرات واستخداماتها، وهو ما لن تسمح به نيودلهي؛ وعلى كل فإن القرار الهندي استند إلى تقييم تقني دقيق أجراه الخبراء العسكريون في الهند خلص إلى أن الطائرات المقاتلة الأميركية لا تضاهي مثيلاتها الأوروبية، ومع أن واشنطن سارعت إلى التأكيد بأن علاقاتها الوثيقة مع الهند لن تتأثر بسبب خسارة الصفقة، إلا أن التطور الأخير لا شك سيرخي بظلاله على مسيرة العلاقات الثنائية، لا سيما بعد الفتور الذي ساعد العلاقات بين البلدين طيلة السنة الماضية. وبالنظر إلى المتاعب الداخلية التي يواجهها أوباما مع استمرار الركود الاقتصادي، فضلاً عن سياسته الخارجية بأفغانستان وانشغاله بسحب قواته فقدت العلاقات الهندية الأميركية بعضاً من ألقها السابق، وحتى الاتفاق النووي الذي رُوج لها كثيراً خلال فترة بوش دخل منذ عدة شهور مرحلة من الجمود والشلل بسبب استياء الشركات الأميركية من قانون "المسؤولية النووية"، الذي صادقت عليه الحكومة الهندية، والأمر لا يقتصر على تعثر الاتفاق النووي، بل يتعداه إلى بعض الإشارات غير الموفقة التي قام بها أوباما تجاه الهند. ففي إحدى تصريحاته طلب أوباما من الأميركيين عدم التوجه للهند بحثاً عن رعاية طبية رخيصة، وهي الملاحظة التي أغضبت مسؤولي الصحة الهنود الذين ردوا بأن الهند توفر رعاية صحية في متناول الرجل العادي، هذا بالإضافة إلى تعليق أوباما السلبي على قطاع التعهيد الذي يُنظر إليه في أميركا على أنه المسؤول عن فقدان الأميركيين لوظائفهم. ولا ننسى أيضاً ما يراه البعض في نيودلهي من أن السياسة الخارجية الأميركية حيال الهند مرتهنة إلى النظرة الباكستانية، بحيث يركز الأميركيون على تحسين العلاقة بين إسلام آباد ونيودلهي حتى تتفرغ باكستان لما يحدث في أفغانستان لما يحظى به الموضوع الأفغاني من أولوية بالنسبة للإدارة الأميركية. وفيما يتوقع المراقبون استمرار الفتور الهندي الأميركي مع انشغال أوباما بالقضايا الداخلية واهتمامه بأفغانستان، فإنه ليس أمام الأميركيين سوى التحسر على خسارة أكبر صفقة تسلح تعقد في التاريخ المعاصر لصالح أوروبا.