مفجع أن ينفخ أحد في نار الطائفية الحارقة بعد عقود من الانصهار الوطني في بوتقة انتماء أصيل للعروبة، وفهم واعٍ لكون الأديان السماوية رسالات محبة وتآلف وتعاون وتسامح، ولكون المذاهب داخل الدين الواحد تنوعاً وتعددية تشكل سنة من سنن الحياة، كما اختلاف اللغات والألوان والأطياف. ونحن في سوريا نعتز بما حققت وحدتنا الوطنية من تقديم مثال رفيع عن العيش المشترك، والتسامي فوق النزعات العرقية والمذهبية، وبما يعتبره السوريون ثراء في التنوع الثقافي، حتى إن أحدنا يخجل أن يسأل صاحبه عن دينه أو مذهبه كي لا يثير ذلك حساسية، فحسبنا الانتماء إلى العروبة بمعناها الواسع، وإلى الوطن بعمق جذوره الحضارية في التاريخ. ولقد فجع السوريون حين وقع العراق بعد الغزو الأميركي في فخ التقسيمات الطائفية والعرقية، وكانت ردة مريبة أن نجد في العراق حواراً ساخناً بين أطياف العراقيين، وهم جميعاً أبناء بلد واحد وأمة واحدة. وكانت أحزان السوريين أقدم وأكبر لما يقع فيه لبنان من مصائب تتوالى منذ عقود بسبب مرض الطائفية المزمن في السياسة وفي المجتمع اللبناني، ولم يكن السوريون وهم الجيران الأقرب للبنان يتعاملون مع أحد على أساس طائفي، فقد كان الانتماء إلى مصالح الأمة وإلى وحدتها وقدرتها على مقاومة الاحتلال هو البوصلة، وهذا ما جعل سوريا شعباً وحكومة تحتضن المقاومة على اختلاف مذاهبها العقائدية. لقد كان أهم ما أنجزه المجتمع العربي في عصر النهضة هو بناء الدولة الحديثة التي ينتمي أبناؤها إلى مفاهيم وأسس وطنية وقومية تبتعد عن مفاهيم العصبية الدينية أو القبلية أو المذهبية أو العرقية، ولم يكن هذا البناء جديداً على المجتمع العربي الذي عانى كثيراً منذ العصر الجاهلي من داء التعصب القاتل الذي جاء الإسلام ليعلن انتهاءه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس منا من دعا إلى عصبية) وليجمع الناس على عقيدة إنسانية تدعو إلى ما هو متفق عليه من العدل والإحسان ومن مكارم الأخلاق. ولكن العصبية سرعان ما عادت إلى المجتمع الإسلامي حين كثر فيه الأخلاط، وبرزت الشعوبية البغيضة التي أضرت بوحدة الأمة، وكان مقتل الخليفة عمر رضي الله عنه إعلاناً عن بداية صراع طال أمده بين الأعراق حيث ما يزال الاحتفاء بالقاتل مثيراً ومستغرباً. ثم جاءت الفتنة الكبرى في مقتل عثمان رضي الله عنه لتكون فاجعة الأمة في جسدها العربي ذاته، حيث كان من تداعيات ذلك وقوع حرب أهلية تفرقت الأمة بعدها، والمفجع أن هذا الحدث تداخل مع فهم الدين ذاته، فظهر التداخل المديد بين ما هو تاريخي وما هو مقدس، وبرزت مذاهب وفرق وشيع ما يزال حضورها قويّاً في النفوس على رغم مرور قرون على ذاك الحدث، والمفجع أن يبقى ذاك التاريخ حيّاً كأنه حدث البارحة. وكانت هذه العصبيات قد دمرت صعود الأمة على الصعيد العالمي، فقد انهار العصر الأموي الصاعد بسبب عصبية استدعت عصبيات أخرى، ولم يكد العصر العباسي يصل إلى دوره الثاني حتى تمكنت العصبيات من القضاء على الحضور العربي كله في الدولة الإسلامية، وبدأ ظهور الدول المتتابعة التي صارت هدفاً سهلاً لغزوين تدفقا عليها من الشرق ومن الغرب، فاقتحم هولاكو بغداد، واقتحم الصليبيون بلاد الشام ومصر، ولولا أن الأمة أفاقت على خطر ما فعلت بها الطائفية والعصبية البغيضة فتوحدت على رايات الحق متعالية على نزعات الهوى والتعصب الأحمق لما تمكن صلاح الدين من تحقيق النصر في حطين، ولما تمكن المظفر قطز وبيبرس من صد المغول. فقد استعادت الأمة كلها يومذاك ما تتفق عليه، ونبذت ما تختلف حوله، وكان من الأحداث المهمة وقوف المسيحية العربية إلى جانب أمتها ومشاركتها في الحروب العربية ضد الفرنجة، حيث رفض المسلمون تسمية تلك الحروب باسم الصليب، ولم يكن موقف المسيحية جديداً على الأمة، فقد أسس له جبلة بن الأيهم منذ أن وقف الغساسنة إلى جانب أهلهم العرب ضد البيزنطيين على رغم الشراكة في الدين. وأما الخلافات المذهبية داخل الدين الإسلامي نفسه فقد ذاقت منها الأمة ويلات كثيرة حتى استعادت وعيها، ووجدت فسحة واسعة فيما تتفق حوله، ولم يكن الدين بذاته سبب الصراع، وإنما كان يستدعى إلى ساحات السياسة والمصالح عند الحاجة إلى تبرير أو ذريعة. وقد استراح العرب منذ نشوء الدول الحديثة من ذاك الوباء التاريخي الذي بقيت جرثومته في الذاكرة، لكن المضادات الحيوية في المشترك من مصالح الأمة جعلته ميتاً أو شبه ميت، فحين بدأ بناء دولة حديثة في مصر بعد هزيمة نابليون لم يعترض المصريون على محمد علي باشا وأسرته الألبانية الأصل، لأن العقد الاجتماعي كان عقد الإسلام الذي يرتقي فوق الأعراق والإثنيات والمذاهب ويعترف بما سبقه من الأديان السماوية، وقد ترأس الوزارة المصرية في مصر عدد من المسيحيين، من أشهرهم نوبار باشا الذي كان أرمنيّاً، ولم يشعر الأقباط والمسلمون بما يعكر صفو وحدتهم الوطنية إلا حين يتدخل الغرباء ليكيدوا للأسرة المصرية كلها. وحين نشأت الدولة الحديثة في سوريا برزت أهمية الوحدة الوطنية في مقاومة الانتداب الفرنسي، فاشتعلت الثورة السورية الكبرى التي شاركت فيها كل أطياف المجتمع السوري وقد بدأت بثورتين إحداهما في الشمال السوري بقيادة هنانو والثانية في الساحل بقيادة صالح العلي، وكان هذا القائدان ينسقان معاً إلى أن التم شمل الثوار وأعطوا القيادة لسلطان باشا الأطرش تعبيراً عن وحدة وطنية تتجانس أطيافها، وكان من رموزها التاريخية أيضاً الزعيم الوطني فارس الخوري الذي كان رئيساً للوزراء وهو مسيحي بروتستانتي. إن ما يعيشه الوطن العربي اليوم من شحن طائفي في بعض وسائل الإعلام، أو من تهديد بنيران الطائفية، يدمر كل ما تم إنجازه منذ عقود طويلة، وهو أخطر على الأمة من أعدائها في الخارج، لأنه يقود إلى الجهل والحماقة اللتين تفعلان بصاحبهما أفظع مما يفعل العدو بعدوه. إن مساحة المشترك في المجتمع العربي أرحب بكثير مما يجري التحريض على الخلاف حوله، وينبغي على الإعلام العربي أن يقوم بدور قومي ووطني لإطفاء الحرائق، وتوعية العامة بخطر الانسياق وراء أية دعوة تفرق وتمزق، ولابد من تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة والانصياع الحقيقي لسيادة القانون فهي العلاج الناجع الذي نجح في أوروبا بعد أن عانت كثيراً من الحروب المذهبية والإثنية، قبل أن تنتقل إلى الديمقراطية التي تضمن لكل صاحب حق حقه.