في الوقت الذي تترنح فيه أحجار الدومينو العربية، ثم تسقط، تجد واشنطن نفسها في مأزق حرج لا تعرف فيه أين تضع رهاناتها؟ ولا ما هو الشيء الذي يمكن أن يخدم مصالحها أفضل من غيره: هل عليها مساندة الأنظمة والأوضاع القائمة؟.. أم تجربة شيء جديد؟ هل هو الاستمرار مع المألوف، أم تجربة التغيير؟ حتى الآن، حاولت إدارة أوباما إمساك العصا من النصف، حيث فضلت إطاحة الطغاة المكروهين مع استثناء بعض من لا تكرههم هي. وفي سبيل ذلك، تتبنى الولايات المتحدة حججاً أخلاقية عالية النبرة توفر أسباباً منطقية تبرر توجيه ضربات جوية لليبيا القذافي، وفي أوقات أخرى تتطلب منها الاعتبارات العقلانية، منح طغاة آخرين تفويضاً ضمنيّاً، بالاستمرار. وهذه المقاربة تجعل الولايات المتحدة عرضة لاتهامات بالنفاق. وفي رأيي، أن الأسوأ من مظهر النفاق والكيل بمكيالين هو النتائج المترتبة عليه. فالإنجاز الرئيسي للإدارة حتى الآن، كان أن تشتري لنفسها آخر شيء تحتاجه وهو حرب أخرى، وهي حرب ستبدو بالضرورة أقل نزاهة، وأقل معنى، وأقل قابلية للحسم مع مرور كل يوم من أيامها. والسؤال الآن: هل تستطيع الولايات المتحدة صياغة استجابة للانتفاضات العربية توائم ما بين الأخلاقي والعقلاني؟ -أليست هذه استراتيجية تفرز نتائج إيجابية متسقة مع الضمير بدلًا من اللجوء إلى حفر حفرة عميقة لنفسها؟ الإجابة: نعم! ففي الحقيقة أن هذه المقاربة بادية أمام أعيننا تماماً. والمهاتما غاندي، ومارتن لوثركنج لدى كل منهما اسم لها وهو: عدم العنف، أو الاعتقاد بأن المقاومة المدنية المبنية على المبادئ يمكن أن تسود في النهاية في مواجهة الوحشية المستمرة. وبعض النظم المتداعية، واليائسة، في العالم العربي، التي تواجه بحركات مقاومة شعبية يصعب قمعها، ولن يتم شراؤها، منخرطة في الواقع في عمليات انتحار جماعي متتابعة. فمن خلال إظهار عدم كفاءتها، وعدم جدارتها بالحكم، فإن تلك النظم تتخلى تلقائيّاً عن شرعيتها. ونهايتها سواء جاءت بسرعة، أو ببطء، بطريقة مرتبة، أو غير مرتبة، إلا أنها لابد أن تأتي في النهاية. حدث هذا بالفعل في تونس ومن بعدها مصر.. وفي اليمن يبدو أن الجدول الزمني لها قد وضُع بالفعل. وفي سوريا، وأماكن أخرى بدأت ساعة التغيير تدق. وعلى رغم أن ليبيا القذافي تختبر فرضية أن القوة الباطشة يمكن أن تعيد عقارب الساعة للوراء، إلا أن جهود القذافي محكوم عليها بالفشل في نهاية المطاف. وحتى إذا ما افترضنا على سبيل الجدل أنه قد انتصر في النهاية في الحرب الأهلية التي تدور رحاها الآن في بلده، فإن ذلك الانتصار سيتركه منبوذاً يحكم نظاماً يعيش في الوقت بدل الضائع. إن العالم العربي الذي ظل مجمداً لعقود قد بدأ يذوب تدريجيّاً في الوقت الراهن، وبدأ التغيير يلوح في أفقه. وكما أوضحت الأحداث، فإن قدرة واشنطن على توجيه تلك العملية تكاد لا تذكر. وسواء انتهى الأمر بالعرب أن وجدوا أنفسهم تحت حكم الليبراليين، أو الإسلاميين، فإن الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع هي أنهم هم -أي العرب- هم من سيقررون ذلك بأنفسهم، ولن يقرره أحد نيابة عنهم. والشيء الذي يجب أن يشغل ذهن الولايات المتحدة ليس محتوى السياسات العربية وإنما شكلها.. ليس وجهتها النهائية وإنما الوسائل التي يتم توظيفها للوصول لتلك الوجهة. ففي نهاية المطاف، فإن المنطقة التي تحل فيها المسيرات والمظاهرات محل القنابل والتعذيب والسجن باعتبارها عملة الحياة اليومية ربما تكون قادرة على إدارة أمور نفسها بنفسها، من دون أي إشراف أميركي دائم. وبالنسبة للولايات المتحدة التي تعاني اليوم من التمدد الاستراتيجي الزائد، فإن ذلك يشكل بالنسبة لها -في حد ذاته- نجاحاً استراتيجيّاً. إن أية أمة ترغب في رؤية سياسة "امنح وخذ"، تحل محل سياسات القسر، يجب أن تقدم نموذجاً ملائماً على ذلك. وهذا ما لم تفعله الولايات المتحدة حتى الآن. فمن خلال مبيعات الأسلحة والمنح، وبفضل وجودها العسكري واستعدادها الطبيعي للتدخل متى ما كان ذلك لازماً فقد قامت على مدى عقود بضمان، وتشجيع، العنف باعتباره دعامة أساسية لسياستها الشرق أوسطية. فخلال تلك العقود كلها كانت واشنطن تتحدث عن السلام، وتروج للحرب. وفي الشرق الأوسط عادة ما نجد أن سفك الدم يجلب سفك الدم. ولكن ديناميات الانتفاضة العربية الحالية القائمة على التلويح باليافطات، والهتاف بالشعارات، والاحتشاد في الساحات العامة، تبشر بإمكانية كسر هذه الدائرة الشريرة (الدم لا يجلب إلا الدم). وللإمساك بهذه الفرصة يجب على الولايات المتحدة اعتناق ثلاثة مبادئ: الأول: دعم هؤلاء الذين ينشدون التغيير والاحتفال بهم من خلال وسائل سلمية مهما كانت أجنداتهم السياسية. والثاني: الشجب، ودون تردد، لكل من يلجأ إلى استخدام الأسلحة والهراوات سواء كان هدفه تجنب التغيير أو الترويج له. والثالث: التنصل من أي استخدام مستقبلي للقوة كأداة للولايات المتحدة في العالم العربي، بما يظهر أنها ملتزمة بهدف مقاربة سياسية لن يلعب فيها العنف دوراً، بأي شكل. إن عسكرة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، التي تعود إلى أيام الترويج لما عرف بـ"عقيدة كارتر" في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، قد أنتجت الكثير من الألم ولم تحقق سوى القليل من المكاسب. والدوافع الأخلاقية، والعقلانية على حد سواء تتطلب من الولايات المتحدة أن تختار طريقها.. ولا شك أن فرصتها للقيام بذلك باتت في يدها اليوم. أندرو جيه باسيفيتش أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطون ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي إنترناشيونال"