لعل الموت الذي جاء في موعده لأسامة بن لادن في باكستان على أيدي قوات أميركية خاصة في الأول من مايو، قد صرف الاهتمام، ولو مؤقتاً، عن الأزمات الجارية في العالم العربي. وقد نجح أوباما في تحسين صورته كرئيس في زمن الحرب، في الوقت الذي يتعرض فيه الزعماء الباكستانيون لتهمة مزدوجة هي عدم المعرفة بالغارة الأميركية، والادعاء بأنهم لا يعرفون أن ابن لادن كان يعيش بين ظهرانيهم منذ خمسة أعوام. وكان رد الفعل في العالم العربي معتدلاً. حيث رحب معظم الزعماء والصحف بشكل حذر بخبر موت ابن لادن القاتل الجماعي. ولكن إسماعيل هنية رئيس حكومة "حماس" المقالة في غزة على وجه الخصوص، استنكر قتله واعتبره استمراراً للسياسة الأميركية القائمة على سفك دم العرب والمسلمين. وهذا البيان من جانب هنية سيقوي الاعتراضات الأميركية والإسرائيلية على المصالحة التي تمت بين "فتح" و"حماس" في القاهرة خلال الأيام الأخيرة. وفي الوقت نفسه وعلى هذه الخلفية من الأنباء المثيرة والعاجلة القادمة من باكستان، يتحول فجأة الربيع العربي إلى صيف. وإلى أن تنتهي الحرب الأهلية الدائرة رحاها في ليبيا، وينتهي سفك الدماء الجاري في سوريا، فسيظل هناك قدر من عدم اليقين حول مستقبل هاتين الدولتين المهمتين للغاية في الشرق الأوسط. ويضاف إلى ذلك أنه لا يزال من غير الواضح حتى الآن ما هو شكل وإطار الحكومة التي ستبرز في كل من تونس، ومصر، واليمن، وهو ما يدفعنا للقول إن التكهنات بشأن المستقبل في هذه المرحلة الدقيقة يجب أن تكون حذرة ومتحفظة. ومع ذلك هناك بعض التوجهات التي تبدو واضحة حتى في المرحلة الراهنة. فالمتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية يقول إن وزارته ستعمل من أجل أن يكون لها صوت أكثر استقلالًا في السياسات الإقليمية، وأن بلاده لن تربط خطواتها بما تريده الولايات المتحدة، كما أنها لن تتعاون تلقائيّاً مع إسرائيل في موضوعات مثل مسألة غزة على سبيل المثال مثلما كان عليه الحال مع نظام مبارك. وفي الحقيقة أن ما عبر عنه المتحدث باسم الخارجية المصرية لا يبشر بخير بالنسبة لإسرائيل.. أما بالنسبة للولايات المتحدة فقد يحمل بعض الفوائد. فغياب مصر كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط لعدة عقود أتاح الفرصة لكل من إيران وتركيا كي تقوما بتعزيز وضعيهما كلاعبين أقليميين رئيسيين. وعودة مصر ستستعيد بعض التوازن للمساعدة على تقليص قدرة اللاعبين الإقليميين الآخرين على التصرف، باعتبار أن كلاً منهم يمثل دولة ساعية للهيمنة وبسط النفوذ. ومع ذلك، لكي تستعيد مصر بعضاً من نفوذها، فإنها ستحتاج إلى الاحتفاظ بجيش قوي، وإعادة بناء اقتصادها الذي تعرض لضرر شديد بسبب الأحداث المتفاعلة هناك منذ وقعت الانتفاضة التي أطاحت بحكم مبارك. وإلى ذلك ستحتاج المؤسسة العسكرية المصرية إلى الاحتفاظ بعلاقات متينة مع نظيرتها الأميركية. وفي رأيي أن ذلك سيضع حدّاً للتفكير في القيام بأي مهام خارجية للجيش المصري مثلما كان الحال تحت حكم عبدالناصر. والاقتصاد المصري لن ينمو بالصورة المأمولة ما لم تبادر الحكومة الجديدة باحترام كافة المؤسسات الموجودة في مصر التي خدمت الشعب بطريقة جيدة في الماضي. فليس كل ما فعله مبارك كان سيئاً كما لم تكن كل المؤسسات الموجودة في عهده تعاني من القصور وعدم الكفاءة. أما علاقة مصر بإسرائيل فالمرجح أن تصبح أكثر توتراً، وأن تمارس مصر ضغطاً أكبر على إسرائيل من أجل تقديم خطة متماسكة لحل المشكلة الفلسطينية بأسلوب يكون مقبولاً من قبل معظم القادة العرب. وإسرائيل من جانبها لن ترضي أبداً الراديكاليين الذين يرغبون في اختفائها من المنطقة. والمشكلة الأكثر صعوبة في هذا السياق تتمثل في التعامل مع "حماس" التي لا تزال تصر على عدم الاعتراف بإسرائيل، وهو ما يعني أن إسرائيل والولايات المتحدة كذلك ستعتبران أي وجود لـ"حماس" في الحكومة الفلسطينية أمراً مؤديّاً حتماً إلى نتائج عكسية. وستكون لدى نتنياهو الفرصة لتقديم خطة سلام جديدة عندما يأتي إلى واشنطن في موعد لاحق من شهر مايو الحالي، لحضور المؤتمر السنوي لـ"آيباك" (لجنة الشؤون العامة الأميركية- الإسرائيلية)، وإلقاء خطاب أمام الكونجرس. وإذا ما استغل نتنياهو الفرصة كي يقدم، بقدر من التفصيل، تصوراً للحدود الإقليمية للدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، فإن ذلك سيمثل اختراقاً رئيسيّاً. أما إذا ما آثر التركيز على الإرهاب، والتهديد الإيراني، وحالة عدم اليقين السائدة في العالم العربي، كأسباب تجعل إسرائيل غير قادرة على المخاطرة بالسلام في هذا الوقت، فإنه سينظر إليه في هذه الحالة باعتباره قد أهدر فرصة ذهبية للسير على الطريق السريع نحو التسوية، وستكون لذلك تداعيات عميقة بالنسبة لإسرائيل، والعلاقات الأميركية- الإسرائيلية على حد سواء. وهناك أحداث يمكن أن تقع في المنطقة عبر شهور الصيف وتغير ملامحها. فالحكومة السورية، حتى وإن بدا ذلك أمراً غير محتمل، يمكن أن تسقط، بالنظر إلى عمليات القتل واسعة النطاق المنسوبة إلى أعوان النظام. وهذا لو حدث فسيغير قواعد اللعب في المنطقة. ولكننا لا نعرف، مع ذلك، من سيخلف النظام، علاوة على أن عدداً من البلدان المجاورة لسوريا، بما في ذلك إسرائيل، وإيران، يمكن أن تكون لها مصلحة مشتركة في عدم رحيل النظام من المسرح في النقطة الراهنة من الزمن. إن الشيء الذي يمكن أن يقال بقدر من اليقين هو أن الشرق الأوسط لن يعود أبداً إلى ما كان عليه من قبل.. وأن القوى الخارجية، وخصوصاً الولايات المتحدة، قد فقدت قدراً لا بأس به من قوتها ونفوذها في المنطقة. ولكن تلك القوى، ستظل، مع ذلك، ذات أهمية حيوية للأمن الإقليمي والدعم الاقتصادي، وإن كانت الأيام التي كانت الولايات المتحدة تملي الأجندة، ستصبح أقل تكراراً بكثير مما كانت عليه في السابق.