لاشك أن أي تحليل أو تفسير لمشروع النهضة، الذي يعني في دلالته العلمية والمنهجية التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والنفسية التي تحدث للأمة في فترة زمنية معينة ويواكبها نوع من التغيير الشامل والتجدد في مجالات الحياة المختلفة سواء كان ذلك على المستوى العلمي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي... لابد أن يبدأ هذا التفسير والتحليل أولاً من البداية، وأعني بذلك من حالة الانحدار والتراجع والضعف الحضاري الذي حدث في جسد الأمة بمختلف جوانبه العلمية والسياسية والاقتصادية والإبداعية، ومن حالة الركود الذي أصاب عقل الأمة وجعلها تعاني من حالة شلل غير قادرة على تكملة مسيرة النهضة والازدهار والمنافسة مع الآخر، حيث إن التعمق في هذه الصورة ومراحلها التاريخية وجذورها أمر مهم جدّاً، لمعرفة الأسباب التي دفعت هذه الأمة إلى تلك الحالة من التراجع والركود وأفقدتها القدرة على الثبات في مشروعها الحضاري، وجعلت العقل العربي غير قادر على إعادة السير في طريق النهضة والتجديد بصورة تتوافق مع ما كانت عليه الأمة من ازدهار وتحضر، ومثلما فعلت باقي الأمم في العصر الحديث. إن العالم الإسلامي لم تكن لديه مشكلة حضارية قبل القرن الرابع عشر لأنه كان يمثل القوى العظمى في العالم في تلك الفترة في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والفكرية واللغوية والروحية، بل إنه كان يمثل نقطة الارتكاز الحضارية والاستراتيجية المهمة للحضارة العالمية، إلى درجة أن الإنسان -حسب المستشرق مارتن كريمر- لم يكن مثقفاً إن لم يكن يعرف العربية، ولو كانت جائزة نوبل كانت موجودة في تلك الفترة لكانت الغالبية العظمى ممن يحصلون عليها هم من المسلمين. وبما أن التاريخ هو سلسلة من التغييرات والثورات والدورات الحضارية فقد مر العالم الإسلامي منذ تلك الفترة بسلسلة من المراحل والتحديات والمواجهات التي أدت إلى تراجعه وضعفه سواء كانت تلك التحديات سياسية أو اقتصادية أو فكرية، وقد أجمع العديد من التفسيرات والتحليلات على أن هناك عوامل عديدة كان لها دور المؤثر في إعاقة حالة التطور والازدهار وإدخال الأمة في حالة ضعف وظلام وتخلف طويل وكان أهمها: 1- الغزوات الخارجية: التي واجهت العالم الإسلامي وتعرض من خلالها إلى كثير من الدمار منذ أيام الغزو المغولي، وأوضح دليل على ذلك التدمير الهائل الذي لحق بمؤسسات العلم والفكر وأهمها المكتبات الضخمة في بغداد. 2- الخلل الذي أصاب البنية السياسية والاقتصادية والفكرية للأمة وخاصة في موضوع ضمور باب الاجتهاد. 3- عامل المناخ: التغيرات المناخية التي حدثت في المنطقة العربية والإسلامية وحولت مساحاتها الواسعة الخضراء ذات التربة الخصبة إلى صحراء قاحلة. 4- تحول الخطوط التجارية من العالم الإسلامي إلى أوروبا منذ القرن الحادي عشر. ولكن الأمر أخذ في التغير تدريجيّاً منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين وهي الفترة التي غالباً ما يعتبر الباحثون والمؤرخون للنهضة أنها فترة يقظة وصحوة، ويستندون في ذلك إلى أنها شهدت أحداثاً عديدة تدل على ذلك أهمها تجربة محمد علي باشا في مصر 1770- 1849 وما أحدثته هذه التجربة من تطورات في بنية المجتمع المصري وفي مختلف مجالات الحياة فيه، والثورة العرابية التي حدثت من عام 1880- 1882 وتأثيراتها، وأيضاً الإصلاح والتجديد الذي قادته مجموعة كبيرة من العلماء والمفكرين المصلحين وأهمهم الإمام محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وعبدالرحمن الكواكبي وغيرهم كثير في مجالات العلم والفكر. وكذلك دور الحركات الوطنية المؤثر في قيادة العديد من حركات التطور والتجديد والإبداع الفكري والوطني. وهذه الصحوة التي حدثت خلالها التحولات والتغيرات واجهت هي الأخرى تحديات عديدة داخلية وخارجية. وبالعودة إلى نصوص ما كتب حول هذه الإشكالية سنجد أن أهمها الهجمة الاستعمارية الأوروبية الشرسة التي اجتاحت العالم الإسلامي، وأطماع التآمر الغربي على المنطقة، والتقسيم الذي حدث للوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية وفق اتفاقية "سايكس- بيكو"، وزرع إسرائيل في قلب الوطن العربي لخلق حالة من الصراع والتوتر السياسي والتآمر الدائم في المنطقة لامتصاص ثروتها. وهنا يمكن التذكير بما حدث من تحريك للفتن الداخلية والثورات المصطنعة واتساع نطاق الحركات الانفصالية ونشاط الفرق المنحرفة وآثار الحروب المتصلة التي عصفت بالمنطقة.