لعل أكثر ما يزعج في الحظر الذي تفرضه زيمبابوي على الصحافيين الأجانب هو فعاليته. وفي هذا الإطار، يمكن القول إن زيمبابوي هي الخاسر الأكبر في معظم الأحيان بخصوص التنافس اليومي على الاهتمام الدولي؛ بعد أن سُمح للرئيس موجابي، الذي يستفيد من دعم إقليمي سياسي وغياب شبه تام للتغطية في وسائل الإعلام الغربية، برئاسة البلاد وقيادتها خلال أسوأ كارثة اقتصادية تعرفها منذ استقلالها في 1980. وهكذا، باتت زيمبابوي تعاني في السنين الأخيرة من نقص حاد في المواد الغذائية، بعد أن كانت توصف في الماضي بالسلة الغذائية لإفريقيا. وبموازاة ذلك، ارتفع التضخم المفرط في زيمباوي إلى مستويات قياسية قل نظيرها في العالم؛ حيث كان سكانها يحتاجون لحقائب من المال من أجل شراء شيء بسيط مثل فنجان قهوة، وكان كل ما يمتلكونه من مال يفقد نصف قيمته مع مرور كل يوم، قبل أن تضطر في 2009 للتخلي عن عملتها الوطنية لصالح الدولار الأميركي والراند الجنوب إفريقي. وزيمبابوي هذه هي بؤرة الاهتمام والإلهام بالنسبة للكاتب بيتر جودوين، الذي رسم في كتابيه السابقين، "عندما يأكل تمساح الشمس" و"موكيوا: ولد أبيض في إفريقيا"، صورة قاتمة للأوضاع في تلك البلاد في ظل التدهور المطرد الذي عرفته، وذلك من خلال المنظور الشخصي لزوجة جودوين وعائلته: فهناك أولاً والداه -المهندس والطبيبة- اللذان يرفضان مغادرة البلاد التي اتخذاها وطناً بعد أن هاجرا إليها من إنجلترا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، على رغم أنه بات من شبه المستحيل أن يعيش المرء شيخوخته هناك بسلام؛ ثم هناك طفولته، والمدارس الداخلية التي درس فيها، والخدمة التي أداها في الجيش، إضافة إلى وفاة شقيقته "جاين" قبيل بضعة أسابيع على موعد زفافها في 1978، عندما سقطت وخطيبها في كمين للجيش كان قد نصبه للمليشيات. والكتاب الثالث والأحدث في هذه الثلاثية هو "الخوف: روبرت موجابي وشهادة زيمباوي"، وفيه يحكي جودوين قصة سفره إلى مسقط رأسه عائداً إليه من نيويورك - حيث يعيش الآن- عقب انتخابات زيمبابوي في ربيع 2008 التي أسفرت عن نتيجة مذهلة: خسارة موجابي، أو على الأقل عدم فوزه فيها بشكل صريح. وغني عن البيان أنه بالنسبة لزعيم درج على تزوير الانتخابات بنجاح، فقد شكل ذلك صدمة كبيرة للجميع؛ ولأول مرة منذ عقود، ساد شعور بأن زيمبابوي يمكن أن تحيا وتكون بدون موجابي. ليبدأ بعد ذلك جودوين ومواطنوه في القيام بأخطر شيء بالنسبة لشعب طالما تعرض للقمع -الأمل. ولكن التفاؤل والأمل اللذين ولدتهما هذه الانتخابات والتغيير الذي بدا أنها تعد به لم يعمل إلا على جعل خيبة الأمل اللاحقة أكثر قسوة وصعوبة. وهو أمر كافٍ لدفع جودوين للانتقال من دور كاتب السيرة الذاتية والصحفي والمؤرخ، الذي اضطلع به في كتابيه السابقين، إلى دور الكاتب الناشط والمناضل، الذي تقلده في كتاب "الخوف". ذلك أنه إذا كان جودوين في الماضي قد رصد زيمباوي بالنبرة الحزينة لمن يعانون الإحباط المزمن، فإنه هنا لم يستطع مقاومة محاولة أن يصبح عامل تغيير. ومما لاشك فيه أنه عبء ثقيل أن يكون المرء من بين من كانوا شهوداً على فظاعات ولديه أيضاً القدرة على نقل ما يجري. وفي هذا الإطار، كتب جودوين معلقاً على موجة أعمال العنف التي انطلقت بعد انتخاب موجابي يقول: "إن جرائم القتل هنا تكون مصحوبة بالتعذيب والاغتصاب على نطاق واسع... وعندما يعود الأشخاص الذين نجوا، مصابين إصابات بليغة، وهم يعرجون يغمزون إلى منازلهم، أو يُحملون أو يُدفعون على متن عربات يدوية، أو على متن مركبات «البيك آب»، فإنهم يصبحون مثل لوحات إعلانية بشرية، حيث يقومون بالدعاية للعواقب الوخيمة لمعارضة الظلم والطغيان...". وهذا التكتيك بات يعرف بـ"تشيدودو"، أو الخوف. وهكذا، يصبح كتاب جودوين في هذه الحالة حملته الشخصية أو طريقته الخاصة للطعن في النسخة التي يقدمها موجابي للأحداث. فيسافر عبر البلاد -إلى الكنائس، والمستشفيات، والأصدقاء القدامى، ونشطاء المعارضة- عاقداً العزم على ما يبدو على توثيق وتسجيل كل حالة ضرب وتعذيب، وكل شكل من أشكال اللاعدالة، وكل حالة من حالات الصمود والتحدي يلتقيها. وفي هذه الأثناء، يتعرض هو نفسه في لحظة من اللحظات للاعتقال لفترة وجيزة من قبل الشرطة ثم يفر من البلاد بعد الإفراج عنه، فقط ليعود إليها بعد عدة أشهر على ذلك ويستأنف نضاله من حيث توقف آخر مرة. وبهذه الطريقة، تصبح رحلة الرصد ونقل الشهادات التي تفطر القلوب، من أجل نقل ما يجري في زيمبابوي، عبء القارئ أيضاً. غير أنه مهما كان العبء ثقيلاً بالنسبة القارئ، فإنه ليس أثقل مما ينوء به شعب زيمبابوي، وأولئك الذين لا يستطيعون أو لا يريدون الرحيل، وأولئك الذين يتعرضون للضرب والتنكيل. محمد وقيف المؤلف: بيتر جودوين الناشر: ليت، براون آند كومباني تاريخ النشر: 2011