يبدأ الكاتب والمؤرخ البريطاني "ديفيد ماركاند" كتابه الذي نعرضه اليوم بعنوان "نهاية الغرب: ماضي أوروبا ومستقبلها" بعبارة "كيبلينج" المشهورة التي يقول فيها إن "الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا أبداً"، هذا التقسيم الذي اخترق الذهنية الغربية لأكثر من ألفين وخمسمائة عام بين غرب متقدم يختزل قيم الحرية والديمقراطية والتمدن وغيرها من المبادئ الإيجابية مقابل شرق متخلف تقبع شعوبه تحت الاستبداد والبربرية هو ما يسعى الكاتب إلى تتبعه عبر التاريخ بالرجوع إلى أصوله الأولى وتشكل أنماطه الذهنية وتصوراته النفسية الزائفة التي رافقت الغرب على مدى التاريخ وكرست تعاليه وإمبرياليته، مع التركيز أيضاً على واقعه اليوم وانكشاف خرافة الغرب المتقدم والشرق المتخلف في ظل التحولات العالمية وصعود قوى جديدة تهدد بإزاحة التقسيمات التقليدية التي لم تعد تعبر في رأي الكاتب عن الواقع الكوني الجديد. وللتدليل على تجذر فكرة، أو بالأحرى أسطورة الشرق والغرب المتباينين في كل شيء والمحكومين بالصراع المحتوم بتفوق الغرب وغلبته، يأخذنا المؤلف عبر رحلة تاريخية شائقة تمر بالصراعات التي شهدها العالم القديم بين المدن اليونانية المزدهرة بديمقراطيتها الوليدة وفلسفتها المتشكلة وبين الإمبراطورية الفارسية ببذخها وما جرى بين الجانبين من حروب. فخلال تلك الفترة ظهرت البذرة الأولى للانقسام الذي حصل في الذهن قبل أن يحصل في الواقع بسبب التصورات الجاهزة والمسبقة التي حملتها الذهنية الغربية منذ ذلك الزمن السحيق وتجتاز كل طور من أطوار التاريخ عبر الإمبراطوريات والدول، فقد ورثت الإمبراطورية الرومانية نفس التركيبة الذهنية لليونان بتصوراتها عن تخلف الشرق ولاعقلانيته لتصبح روما بعد أثينا رمز العقلانية والتفوق الحضاري لتتواصل الحرب بين الطرفين في كر وفر مستمرين. وحتى بعد ظهور الإسلام أخذ الصراع بين الغرب والشرق، ذو المرجعية الذهنية التي تحركها تصورات عن الذات والآخر، مسوحاً دينياً بدأت تتعاظم إلى أن انفجرت في شكل الحروب الصليبية التي شنها الغرب على الشرق الإسلامي وما صاحب ذلك من مجازر رهيبة روعت الناس وأسالت الكثير من الدماء، وسرعان ما تحول الانقسام التقليدي بين اليونان وفارس إلى صراع ديني بين المسيحية والإسلام دون أن يفقد جوهره الحقيقي المتمثل حسب الكاتب في "تفوق" مزعوم للغرب الذي يرمز للحضارة والتقدم والشرق المحيل على التخلف والاستبداد. وحتى عندما خبت جذوة الغرب المتجسدة في أوروبا طيلة فترة القرون الوسطى وإشعاع الحضارة الإسلامية التي بنت مدنية راقية في الأندلس وساهمت في تقدم الغرب وصحوته لم تختف التركيبة الذهنية والصور النمطية عن المركزية الأوروبية بل عادت للظهور أكثر حدة بعد استعادة أوروبا لتراثها الإغريقي القديم. والمفارقة أن ذلك تم من خلال شروح العرب وتعليقاتهم على الفلسفة اليونانية، وبات الأوروبيون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ورثة العقل اليوناني وقيمه بما فيه من تصورات خاطئة عن سمو الغرب على الشرق، كما تشربت النخب الأوروبية الجديدة التي أنتجت فكر التنوير والحداثة الصور النمطية ذاتها لتعيد إنتاجها مع تطور نظامها الرأسمالي وظهور نظريات جديدة ستصبح واقعاً معيشاً في أوروبا مثل الليبرالية التي بدورها ستكرس الصراع بين الغرب والشرق ليجد أحد أكبر تمظهراته في الإمبريالية الغربية وتمدد الإمبراطوريات الأوروبية إلى خارج حدودها، بل وظهور أفكار ونظريات اجتماعية تعاملت مع الإنسان غير الغربي بدونية نزعت عنه جوهره الإنساني المشترك. بيد أن أوروبا لم تكن وحدها مركز العالم، إذ بالإضافة إلى الإمبراطوريات الأوروبية الوليدة كانت هناك الحضارة الصينية التي كانت، إلى حدود القرن الثامن عشر، أكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية، هذا في الوقت الذي عرفت فيه الهند ثقافة متسامحة وحواراً بين مختلف الأديان أطلقه الإمبراطور المغولي "أكبر". ولكن الكاتب يدخل بنا العصور الحديثة والزمن الراهن ليكشف التحولات التي ستطيح بمقولة كيبلينج، فبعد حربين مدمرتين أوروبيتين بالأساس امتدتا إلى باقي العالم وأغرقتاه فيما بات يسمى بالحربين العالميتين الأولى والثانية بدأت أوروبا بالتحديد تفقد بريقها وباتت الإمبراطوريات التي امتدت إلى العالم بأسره تخسر مستعمراتها، وفي المقابل صعدت الولايات المتحدة التي تسلمت المشعل من أوروبا ومعه الانقسام بين الغرب والشرق، وتحولت أميركا برمزيتها ومثاليتها المفرطة لتصبح الحارس الأمين لقيم التقدم والديمقراطية والحرية وغيرها من المبادئ التي تسربت جيلاً بعد جيل إلى العقلية الأميركية المؤمنة بالتفوق الغربي، ومع أميركا صعد الاتحاد السوفييتي أيضاً ليجسد الشرق المتخلف الذي يتعين محاصرته. واللافت حسب الكاتب أن أميركا أقامت لها مناطق نفوذ عديدة في أوروبا واليابان وباقي بلدان شرق آسيا التي انضوت تحت النظام الأميركي. وعندما انهار المعسكر الشرقي لم تهنأ أميركا طويلًا بلحظتها الأحادية على الصعيد العالمي، إذ سرعان ما جاءت لحظة 11 سبتمبر 2001 لتكشف للعالم هشاشة القوة العالمية الأولى واحتمال ضربها، وفي أثناء ذلك كانت التحولات الكبرى تعتمل على الساحة الدولية وكانت خريطة جديدة تتشكل تنتقل معها مراكز القوة من الغرب إلى الشرق في غفلة من أميركا، وبدأ الحديث عن الصين والهند كقوتين منافستين ليجد الخطاب الغربي المتمركز على الذات والمحتقر للآخر نفسه في مأزق حقيقي، لاسيما بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي جاءت لتكرس المعادلة الكونية الجديدة، مؤذنة بتراجع الغرب. ولكن الكاتب وبعد تراجع أميركا يعود بنا إلى أوروبا التي كانت مهد الانطلاقة الغربية علها تستعيد ريادتها من الولايات المتحدة وتبقى لحظة الغرب مستمرة على أن تتخلص وللأبد من نظرتها الثنائية القائمة على غرب متحضر وشرق متخلف. زهير الكساب الكتاب: نهاية الغرب: ماضي أوروبا ومستقبلها المؤلف: ديفيد ماركاند الناشر: جامعة برينستون تاريخ النشر: 2011