إننا بصدد لحظة حاسمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فبرعاية الحكومة المصرية وقع أمس الفصيلان الفلسطينيان الرئيسيان، "فتح "و"حماس"، على اتفاقية المصالحة التي ستسمح لهما معاً بخوض انتخابات تشريعية ورئاسية خلال مدة زمنية لا تتجاوز السنة. غير أن المجهود الفلسطيني ومن ورائه الدعم المصري يتطلب مساعدة أخرى من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، لأنه بهذه المساعدة نستطيع المساهمة في ترسيخ الديمقراطية الفلسطينية وإقامة الأسس التي ستقوم عليها الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة باعتبارها الشرط الأساسي لبلوغ سلام آمن مع إسرائيل. لكن إذا اختار المجتمع الدولي ومعه الولايات المتحدة الوقوف بعيداً، أو إضعاف اتفاق الوحدة الوطنية الموقع عليه أمس الأربعاء، فإن الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة قد يتدهور في المرحلة المقبلة وتغرق المنطقة في موجة جديدة من العنف ودوامة متلاحقة من الفوضى تضر بالجميع وعلى رأسهم إسرائيل التي ستفقد أمنها وسلامة حدودها. فالاتفاق الأخير بين الفلسطينيين الذي جاء بعد فترة طويلة من الخصام والانقسام لا بد من قراءته في سياق ما يجري في المنطقة العربية، إذ يمكن اعتباره مساهمة فلسطينية تجاه "الصحوة العربية" التي انطلقت بإطاحة نظامين في تونس ومصر واستمرار تداعياتها في بلدان أخرى قاسمها المشترك المطالبة بالحرية والكرامة وإنهاء الحكم الفردي الذي طغى على المنطقة طويلاً، لكن الاتفاق هو أيضاً حاجة داخلية فلسطينية تروم إنهاء حالة الانقسام وإعادة اللحمة الوطنية الفلسطينية إلى تماسكها. فقد أدرك الفصيلان الفلسطينيان، "فتح" و"حماس"، أن هدفهما الأسمى في نيل حقوقهما الوطنية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة لن يتحقق ما لم ينته الانقسام، ويُعاد رص الصفوف، هذا بالإضافة إلى ما يؤشر إليه الاتفاق من أهمية مصر المتنامية في المنطقة بعد سقوط النظام السابق ودور الديمقراطية في تكريس هذا الدور، فبعدما أزاحت عنها رداء الانحياز والمخاوف غير المبررة نجحت القاهرة في إقناع الطرفين معاً بالتوقيع على الاتفاق من خلال الجمع بين اتفاق سابق وُقع في أكتوبر 2009 بالقاهرة من قبل فتح وإضافة بعض التطمينات لتبديد تحفظات حماس التي رفضت التوقيع في وقت سابق على الاتفاق، وهكذا تكون مصر قد أخذت بعين الاعتبار انشغالات حركة "حماس ولعبت دوراً مهماً في الدفع باتجاه التوافق وإعلان المصالحة، وبموجب الاتفاق يلتزم الطرفان بتعيين توافقي لأعضاء لجنة الانتخابات والمحكمة الانتخابية التي ستشرف على مراقبة الاقتراع. وقد أتيح لي شخصياً مراقبة ثلاثة انتخابات فلسطينية وأستطيع التأكيد أن تلك المؤسسات أشرفت على انتخابات شهد الجميع بنزاهتها وحريتها وابتعادها عن العنف والتزوير والتجاوزات التي عادة ما تضرب مصداقية باقي العمليات الانتخابية في المنطقة، وتعهد الطرفان أيضاً، بمقتضى الاتفاق الموقع عليه، بتشكيل حكومة من التكنوقراط لا وجود فيها لأعضاء من "حماس"، أو "فتح"، هذا بالإضافة إلى تشكيل لجنة عليا للإشراف على الملف الأمني يرأسها الرئيس الفلسطيني مباشرة، وذلك بدعم متواصل من مصر التي عبرت عن استعدادها للتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية في هذا المجال وبتوافق كامل مع "حماس". لكن لماذا يتعين على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي دعم الاتفاق ومنع فشله؟ أولاً لأن هذا الدعم ينسجم مع المبادئ المعلن عنها والمتمثلة في احترام حقوق الفلسطينيين ورغبتهم في إرساء ديمقراطيتهم، فمع أن "حماس" فازت في الانتخابات التشريعية عام 2006، التي رفضت نتيجتها "الرباعية الدولية" المكونة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا وأوقفت الدعم المقدم للسلطة الفلسطينية بسبب مشاركة "حماس" في حكومة الوحدة الوطنية التي سرعان ما سقطت، وبدلاً من تأجيج التنافس والصراع بين الطرفين من قبل المجتمع الدولي عليه الوقوف إلى جانبهما ودفعهما إلى حل المشاكل عن طريق الانتخابات. أما السبب الثاني الذي يدفع المجتمع الدولي لدعم الاتفاق هو ما قد يؤدي إليه من توقيع وقف دائم لإطلاق النار بين إسرائيل والفلسطينيين، فرغم المخاوف الإسرائيلية المشروعة من انتقال العنف إلى الضفة الغربية وقصف البلدات الإسرائيلية، إلا أنه يتعين على الولايات المتحدة العمل مع الأطراف جميعاً لضمان التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار. وأخيراً يمكن للمصالحة الفلسطينية في حال نجاحها أن تقود إلى اتفاق نهائي بشأن حل الدولتين، لا سيما وأن أبا مازن مازال قادراً على التفاوض باسم الفلسطينيين، وبمساعدة لجنة الرباعية تستطيع حكومة الوحدة الوطنية القادمة التفاوض مع إسرائيل حول تبادل السجناء الفلسطينيين بالجندي الإسرائيلي "جلعاد شليط" وتجميد المستوطنات، وقد أبدى القيادي في حماس، خالد مشعل، خلال حديثي معه، مرونة ملحوظة عندما قال إنه سيقبل اتفاق حل الدولتين إذا ما صادق عليه الفلسطينيون في استفتاء عام، وهو ما يعني اعترافاً بحق إسرائيل في الوجود مقابل إقرار هذه الأخيرة أيضاً بدولة فلسطينية مستقلة. ورغم التحفظات التي تثيرها إسرائيل بشأن ميثاق "حماس" الذي يدعو إلى تدمير الدولة العبرية، وهو أمر يجانب الصواب ويتعين تغييره، فإنه يجب التذكير أيضاً أن إسرائيل فاوضت منظمة التحرير الفلسطينية في اتفاقات أوسلو، بينما ميثاقها يدعو للشيء ذاته، وقد تطلب الأمر من المنظمة خمس سنوات قبل تغيير ميثاقها. وفي الوقت الذي يشتكي في الإسرائيليون من غياب الشريك الفلسطيني في ظل الانقسام بين "فتح" و"حماس"، فإنهم يرفضون أيضاً حكومة وحدة وطنية تشارك فيها "حماس"، لكن ومهما يكن الموقف الإسرائيلي اختار الفلسطينيون الوحدة، ولأنها وحدة هشة فإنه يتعين على "الرباعية" العمل مع الفلسطينيين لضمان استمرار المصالحة علها تطلق مفاوضات الوضع النهائي مع إسرائيل، وتنهي الصراع في الشرق الأوسط. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"