كنتُ أقرأ الخبر وعلامات الاستفهام تدور فوق رأسي، فكيف يتجرّأ بابا الكاثوليك الحالي بنديكتوس السادس عشر على إعلان سلفه البابا يوحنا بولس الثاني شخصاً "طوباوياً"، وسط هتافات مليون شخص اكتظت بهم ساحة القديس بطرس في العاصمة الإيطالية روما؟ فالذي أعرفه عن "الطوباوية" أنها تعني الخيال والوهم والمثالية البعيدة عن الواقع، كالمدينة الفاضلة التي تُعدّ فكرة طوباوية، وكالاشتراكية المثالية التي تبشّر بمجتمع إنساني سعيد يقوم على الملكية الجماعية والتساوي في توزيع المنتجات والعمل الإلزامي لكل أفراد المجتمع، كما تعرّفها موسوعة "ويكيبيديا". فهل هذا التصريح البابوي إعلان من الفاتيكان بأن البابا الراحل كان يعيش في الخيال وبعيداً عن الواقع؟ ولمَ هذا الانقلاب المفاجئ على البابا السابق؟ وما الذي يدور في أروقة الكنيسة؟ لم تنقشع علامات الاستفهام برغم قراءتي للخبر كاملاً، وازددتُ جهلاً حين استعرضتُ تعليقات القرّاء على الخبر، فأحدهم: "طوباوي يعني حفّار قبور"، وكتب ثالث يقول: "ألغاز في ألغاز.. ما هذه المتاهات؟"، وكتب أحدهم: "ليت أحد الإخوة المسيحيين يشرح لنا معنى الكلمة التي نسمع بها للمرة الأولى في حياتنا". ووضع أحد القرّاء حدّاً لهذه الحيرة الجماعية بين القرّاء المسلمين بطبيعة الحال بأن أوضح قائلاً: "طوباوي مرادف لتعبير ولي من أولياء الله، أو رجل ذي كرامات، فإخواننا المسيحيون وضعوا قوانين لجعل الرجل الصالح المتديّن أهلاً لحمل لقب ولي من أولياء الله". كنتُ قد كتبت في هذا المكان قبل فترة مقالات عدة عن صعوبة، إن لم تكن استحالة، فهم الآخر لديننا كما لا نفهم نحن دينه، إذ أن أي مسلم غير متخصص يقرأ فقرات صغيرة عن دين غير الإسلام، فإنه سيشعر بالدوار والإرهاق وهو يصارع أمواجاً من الأسماء الغريبة والأماكن المجهولة والمصطلحات الغامضة التي لا يمكنه أن يتصوّرها في ذهنه، ومن ثم لا يمكنه الحكم عليها، إذ أن "الحكم على شيء فرع من تصوّره"، ولن يكون أمامه سوى الرجوع إلى ما كتبه المسلمون عن ذلك الدين. وهو عين ما يفعله الآخر حين يسمع عن الإسلام، إذ يتوه في وسط أطنان من الاعتقادات والأحكام والمعلومات. وكما أنني لا أفهم معنى "طوباوي"، فإن الآخر لا يفهم معنى "إمام"، وقِسْ على ذلك، ومن ثم نعود جميعاً إلى ما سبق أن سمعناه في مجتمعاتنا ومدارسنا وتناقلناه عن أسلافنا. إن قضية أن الآخر لا يفهم الإسلام كما لا نفهم نحن دينه، وأن الآخر لن يترك يقينه بدينه ليجري خلف شكّ يصعب عليه إثباته، هي قضية مهمة يترتّب عليها أن نكفّ عن تصوّر الآخر بأنه جاحد ومعاند، فهو ببساطة لم يعرف الحق ليجحده، ولم يعرف الإسلام ليعانده، ولا أدري من أين جئنا بالفكرة التي تقول إن غير المسلم لو بحث عن الحق لوجده؟ لو كان الأمر بهذه البساطة لما ظهر "الخوارج" مثلاً، ولما تفرّق المسلمون منذ فجر الإسلام، وإلى يومنا هذا، إلى فرق وشِيع تكفّر وتلعن وتقاتل بعضها بعضاً؟ وبعضنا يعذر غير المسلم إن كان من عامة الناس، لكنه يعتقد أن نفوس الزعماء الروحانيين لبقية الأديان مستيْقنة للحق إلا أن مصالحهم وأهواءهم هي التي تغرقهم في لجّة الجحود والإنكار، وهذا افتراض من صنع أيدينا، فكما أن الكثير من علماء المسلمين لا يعرفون شيئاً عن بقية الأديان، ويعتبرون التعرّف عليها مضيعة للوقت، إذ هم يتبعون الدين الحق، ففي المقابل، لا يعرف أقرانهم في الأديان الأخرى شيئاً عن الإسلام، ولا يحاولون التعرّف عليه لأنهم حسب اعتقادهم يتبعون الدين الحق.