"لا تقلْ لي إن القمر ساطع، بل أرِني وميض ضوء في شظايا زجاج محطم". هل خطر ببال الأديب الروسي الشهير أنطوان تشيخوف عندما قال ذلك أيّ وميض يخطف أبصار باحثين وأكاديميين يجمعون ويترجمون ويناقشون منذ قرنين شظايا مخطوطة الرحالة ابن فضلان التي عُثر عليها في بلدان مختلفة؟ أمس احتفلت جامعة "فورونيتش" في روسيا بإقامة تمثال له اعترافاً بفضله في تسجيل أقدم الشواهد التاريخية على "الروسيه" وهو الاسم الذي أطلقه ابن فضلان في كتابه على سكان روسيا. "ورأيت الروسيه وقد وافوا في تجارتهم ونزلوا على نهر إثل فلم أرَ أتم أبداناً منهم كأنهم النخل شقر حمر". كتاب رحلة ابن فضلان مبعوثاً من الخليفة العباسي المقتدر بالله من بغداد صيف عام 921 ميلادية إلى ملك الصقالبة الذي وصله صيف عام 922 وثيقة سوسيولوجية وإتنوغرافية رائدة في وصف القبائل والأقوام المتداخلة على امتداد الكتلة القارية الأوروآسيوية، من ديار بكر وخوارزم وبحر الخزر ونهر الفولغا وحتى جبال وبحار شمال أوروبا. أثار الكتاب منذ ترجمته في القرن التاسع عشر إلى اللغات العالمية سجالات لم تنقطع حتى الآن بين المختصين بتاريخ ميلاد وتشكيل الدولة الروسية، ودور قبائل "الفايكنغ" المحاربة في تاريخ شمال وشرق أوروبا. وقد أصبح الكتاب موضوعاً لروايات وأفلام ومسلسلات تلفزيونية عثرت فيه على مادة فنية جاهزة، كرواية الكاتب الأميركي مايكل كرايتن "أكلة الموتى" التي تحولت إلى فيلم "المقاتل الثالث عشر" وفيه أدّى دور ابن فضلان الممثل الإسباني أنطونيو بانديراس. وأكثر ما يثير الدهشة اللغة العصرية لابن فضلان الذي تكاد تسمع صوته وهو يتحدث عبر أكثر من ألف عام بدقة العالم ورهافة الروائي. يصف على سبيل المثال برد شتاء روسيا "ولقد كنت أخرج من الحمام فإذا دخلت إلى البيت نظرت إلى لحيتي وهي قطعة من الثلج حتى كنت أدنيها إلى النار"! ويضاهي ابن فضلان كُتاب الطبيعة المعاصرين بوصفه الشيّق للأنهار والجبال والوديان والأشجار والحيوانات. في غابة روسية رأى "شجرة طولها أكثر من مئة ذراع وقد سقطت وإذا بدنها عظيم جدّاً فوقفت أنظر إليه إذ تحرك فراعني ذلك وتأملته فإذا عليه حية قريبة منه في الغلظ والطول فلما رأتني سقطت عنه وغابت بين الشجر". أو يصف الليالي البيضاء شمال روسيا التي خلطت عليه مواعيد الصلاة. "جلست خارج القبة وراقبت السماء فلم أرَ من الكواكب إلاّ عدداً يسيراً، وإذا الشفق الأحمر الذي قبل المغرب لا يغيب بتة ورأيت القمر لا يتوسط السماء بل يطلع في أرجائها ساعة ثم يطلع الفجر فيغيب القمر". ويحافظ ابن فضلان على المستوى العلمي الدقيق والحس الأدبي الرفيع حتى عندما يصف مشاهد فاضحة، كحرق رؤساء "الفايكنغ" الموتى في حفلات صاخبة تستغرق أياماً، ويمارس فيها المعزون الجنس مع جارية تطوعت لمشاركة مالكها المتوفى مصيره. وتقام للميت وجاريته محرقة في سفينته وسط النهر، حيث يُسجى بملابس من الديباج مزررة بالذهب، وتُذبح الأضاحي، وترمى أجزاؤها المقطعة للحرق معه، و"الجارية التي تريد أن تُقتل ذاهبة وجائية تدخل قبة قبة". وفي تلك اللحظة المسعورة يلتقط ابن فضلان بحس روائي مرهف رعب الجارية حين تُدفع إلى قبة سيدها الميت "فرأيتها وقد تبلدت"، وتريد الخروج فيُقحم رأسها داخل القبة "والرجال يضربون بالخشب لئلا يسمع صوت صياحها فيجزع غيرها من الجواري ولا يطلبن الموت مع مواليهن"! ملاحظات ابن فضلان حول التحلل الجنسي والنجاسة لدى أقوام شمال أوروبا آنذاك تثير حنق باحثين غربيين يتهمونه بـ"الشوفينية الثقافية". ويتجاهل هذا الاتهام أن الخليفة العباسي بعث ابن فضلان استجابة لالتماس ملك الصقالبة "إرسال من يفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجداً وينصب له منبراً ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له". لقد طلب الملك الأوروبي الاستشارة الثقافية والتقنية والدعم المالي والاستراتيجي من حضارة عربية متقدمة ثقافيّاً وتقنيّاً وأخلاقيّاً، ومن أبرز مظاهر تفوقها النظافة والطهارة البدنية والروحية للمؤمنين بها، الذين يلتزمون بالوضوء والصلاة خمس مرات في اليوم. والأكاديميون العرب والروس يفهمون بعضهم بعضاً أكثر من أكاديميي الأمم الأخرى، فكلا شعبيهما مهرجان من أقوام وأعراق ولهجات وعقائد مختلفة، كاختلاف ومضات جوهرة بلورية. وفضل ابن فضلان أنه ألقى نظرة بكراً على روسيا لحظة تجوهرها إذا صحّ التعبير. ففي عام 839 كان الروس سويديين، وعام 1043 كان الروس سلافيين، وابن فضلان الذي قام برحلته عام 921 محظوظ برؤية روسيا في خضم مهرجان التحول العظيم. هذه الحقيقة يجهلها "النورمانيون" و"ضد النورمانيين" على حد سواء. يلاحظ ذلك بافل دولوخانوف الذي يعد من أبرز علماء الآثار الروس، وجيمس مونتغومري، أستاذ العربية في جامعة كيمبردج في بريطانيا. و"النورمان" هو الاسم الذي يطلق على الاسكندنافيين القدماء، أو من يُسمون "الفايكنغ". و"النورمانيون" هم الباحثون الذي يعتبرون الروس إسكندنافيين من شرق السويد، و"ضد النورمانيين" يعتبرون الروس سلافيين. وفي كلا الحالين يُفسَّر قيام الدولة الروسية بعامل خارجي. ولهذا الخلاف أبعاد سياسية عميقة لم تنقطع حتى اليوم في روسيا بين من يعتبرون أنفسهم أوروبيين ومن يتمسكون بهوية القومية السلافية. تمثال ابن فضلان الذي صوّره النحات الروسي سيدروف وهو يلوّح بكتاب رحلته شهادة تقدير ليس فقط لابن فضلان، بل لجامعة "فورونيتش" أيضاً التي أنشأت "مركز الدراسات العراقية الروسية" وعهدت بإدارته إلى الأكاديمي العراقي ضياء نافع. ورحلة نافع من بغداد إلى روسيا كرحلة ابن فضلان عبر مهالك وأهوال ومخاطر السجن والقتل دون أن يفقد موضوعيته الأكاديمية، وحسه الإنساني المرهف. نافع حصل على الماجستير في الأدب واللغة الروسية من جامعة موسكو، والدكتوراه من جامعة باريس، وموضوع كلتا الشهادتين الأديب الروسي أنطوان تشيخوف، وعاد للتدريس في كلية اللغات بجامعة بغداد 36 عاماً، نال خلالها درجة الأستاذية، ووضع سبعة مؤلفات أكاديمية، بينها معجم روسي عربي سياسي، وكان أول وآخر عميد منتخب للكلية، حيث لم ينتخب عميد بعد مغادرته بغداد عام 2006 إثر اغتيال اثنين من أبناء شقيقته خلال حملة تصفية المترجمين العراقيين. رحلة نافع من بغداد إلى روسيا قصة مجهولة من قصص نخبة أكاديمية عراقية أعادت تأسيس نفسها، وبناء جدارتها ضد التشريد والتهجير، والاغتيال، ومهانة العوز، وتعب سن التقاعد. "لا تقلْ لي إن القمر ساطع، بل أرني وميض ضوء في شظية زجاج محطم"