الظاهرة الأمنية والثورة العربية الكبرى في ربيع 2011، تحتاج إلى شيء من التفكيك النفسي. ينص علم النفس على أن الإنسان يتغير بامتلاكه القوة من إنسان طيب الى شيطان مريد، ومن يقرر الطغيان ليست الأخلاق الفردية بل الوسط الاجتماعي. إن قصة فرار بن علي من تونس وجلوسه فوق رقاب العباد ربع قرن هي مظهر مهم من علاقات القوة بين البشر، أو بكلمة أدق علاقات السيطرة والانصياع وكيف يمكن لفرد أن يتحكم في رقبة أمة تعدادها ملايين ما يشبه السر المغلق الذي يجب فتحه وكسر مغاليقه. كما أن فراره المشين يروي ضعف الطغيان كما أنها أمل البشر في التحرر، وهي أكبر من تونس البلد الصغير الشجاع، أن يمتد أثره إلى زوايا العالم العربي المظلمة المشبعة بعفن الديكتاتورية. إن أول سورة نزلت من القرآن ناقشت مشكلة الطغيان:كلا إن الإنسان ليطغى.. ووضعت الحل في كلمتين لا تطعه ولم تقل اقتله؟ كما أنها ربطت الكرامة بالقراءة اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم؟ ولكن النخب السياسية والقيادات الحزبية لم تتفطن لهذا مع أنها تدين بالإسلام ولا تتعلم إلا بالعذاب المهين. المهم ما حدث في تونس هو بداية النهاية للأنظمة الطاغوتية، وفي تقديري أن العالم العربي برمته مقبل على التغيير في مدى قصير ربما لن يتجاوز 10- 20 سنة. المهم إذ أن نستوعب ونفكك هذه الظاهرة على نحو علمي وليس ديماغوجي سياسي؟ أي نقل المسألة إلى حقل البحث العلمي أو هكذا أزعم؟ روى لي معتقل سياسي يساري في بلد عربي لبث في السجن مدة 12 عاماً بسبب تورطه في تنظيم سري، وكان أفضل حظاً من آخرين كثر؛ فقد قضاها في زنزانة جماعية، وهناك من بقي في الإفرادية أطول فخرج يترنح بين الجنون والعبقرية. قال لي السجين السياسي: في إحدى الليالي أراد أن يعاقبنا السجَّان لسبب فلم يعثر عليه، ولكنه رأى أحد الناس يصلي؛ فلما طلب منه المثول بين يديه وترك ربه الأعلى، استمر الرجل في عبادته، فلم يشأ أن يقطع صلاته؛ فكلفه هذا أن يسحبه السجَّان، ويرمى به الليالي ذوات العدد في إفرادية مظلمة. كان من يحكم وينفذ هذا جلاد برتبة عريف يملك من الصلاحية أن يتصرف في مصائر الأفراد كيفما يحلو له بالتعذيب والإذلال. إن هذه القصة تحكي مرض (علاقات القوة) بين الناس وتتبدى في صورتها العارية في السجن. وكما قال (أتيين لابواسييه) في كتابه (العبودية المختارة عام 1562 م):(يجب أن لا نراهن على الطيبة الموجودة في الإنسان طالما يمكنه أن يؤذي، ومعه مفاتيح القوة). نعم يجب عدم المراهنة على طيبة الإنسان بل فرامل تكبحه كما في تركيبة السيارة بين دعسة البنزين والفرامل، وإلا كان مصير السيارة في أول خروج كارثة. وهو ما يحدث من الكوارث اليومية في العالم العربي فيموت البشر دهساً وقتلاً ونفياً وهجرة وموتاً في الحياة.