أتاح الملتقى الإعلامي العربي في الكويت فرصة أولى من نوعها لجس نبض الإعلام إزاء إعصار التحولات العربية، إذ جمع لفيفاً من العاملين في الإعلامين الحديث والتقليدي، وأعطى للشباب حيزاً مستحقاً بعد بروزهم في مختلف الانتفاضات كقوة كامنة تعطي مجتمعاتها أملاً واعداً بمستقبل واعد. لعل الدرس الأكبر الذي شكّل قاسماً مشتركاً للنقاشات أن الإعلام أصابه ما أصاب نظم الحكم من الهزات الشعبية، وإنْ كان أكثر عرضة للتأثر بها قبل وأثناء وبعد حصولها، فحينما حصلت احتجاجات كانت هناك مطالبة بالحرية، وهذا يقع مباشرة في النطاق الذي يعني الإعلام لأنه المعبر عن وجود الحرية أو غيابها، وكل الاحتجاجات طالبت أولاً بالإصلاح، ولا يمكن تصور أي إصلاح حقيقي من دون الاعتراف بالحق في الحرية. لعب الإعلام، بالطبع، وبحاله الراهنة، دوراً مهماً في تطوير حالات الاحتجاج، وكانت له مساهمة في إنجاحها، غير أن الدور الحاسم كان للشارع بما اكتنفه من معاناة اختلط فيها الصبر والإصرار بالدم والعرق والدموع، فالمواجهات المستمرة حالياً في ليبيا واليمن وسوريا تؤكد أن المسألة ليست مسألة إعلام يتقدم أو يتراجع، ينفتح أو ينغلق وفقاً لأجندات أصحابه وارتباطاتهم. لم يكن هناك لبس، لدى المشاركين في الملتقى الكويتي، في أن الإعلام الذي أثبت نفوذه في الأحداث هو المتمثل بالفضائيات المصنفة أو بالأحرى المصممة لتكون "خارج السلطة"، ولو بشكل متخيل، أي أنها ليست منغلقة كلياً، وإنما أعطيت "هامش حرية" يوسَّع أو يضيّق حسب الظروف والضرورات والمصالح، بديهي أن الحديث هنا يتناول القنوات "غير أو شبه الرسمية" كـ"العربية" و"الجزيرة" و"بي. بي. سي" و"الحرة" و"فرانس 24"، فهذه المرحلة العربية الاستثنائية كانت من الفرص النادرة التي أتيحت لها لتتنافس وتثبت مهنيتها واحترافها، وكذلك مدى أصالة المفاهيم التي تستند إليها، من حرية وعدالة وديمقراطية، لكن كان لابد من الاعتراف أيضاً بأن "إعلام الجمهور" اخترق المشهد وقدم مساهمة انقلابية لا تنفك تتطور متجاوزة كل القيود والأنماط، فالهاتف الجوال جعل من حامله إعلامياً بالصدفة، لكنها صدفة ثمينة، وعندما راح الشباب يميلون إلى إعلامهم الخاص الموازي والمرتبط بالإنترنت لم يكن أحد يتصور إلى أين يمكن لهذه النقلة أن توصله. منذ اللحظات الأولى انبرت الأنظمة المعنية لاتهام الإعلام بالإنحياز والتحريض والعبث بالحقائق والوقائع وبإبراز أشخاص لا تمثيل لهم، كل ذلك كان صحيحاً وخاطئاً في آن، لكن الحقيقة الوحيدة التي لا تقبل الجدل هي أن الحدث هو الحاصل في الشارع، وهو كان لايزال أقوى وأهم من التغطية الإعلامية له، إذ أن التغطية رهن المقومات التقنية واللوجستية المتاحة لها، ولو كان لها أن تعتمد على الإعلام الحكومي لبقيت أياماً مكتفية بالصمت أو بالبيانات المطمئنة إلى أن "شغباً" حدث وتمت السيطرة عليه، أو أن "متطرفين" حاولوا إنشاء "إمارة إسلامية" ومنعوا، أو... أو.. ذاك أن السلطات كانت متيقنة بأنها أقفلت الأبواب والنوافذ والشوارع والكاميرات، وبالتالي فلا شهود لما تقدم عليه أو ترتكبه من تمارين قمع لم تعد مجدية. بين التعتيم المزمن، والانكشاف المفاجئ، كان لابد من صعود نجم الشهود العيان الذين سيشكلون جسر الانتقال من الإعلام المغلق إلى الإعلام المنفتح، الشهود ليسوا إعلاميين بطبيعة الحال، ولا يمكن أن يحلوا محل الإعلاميين، لكن استحالة وجود هؤلاء جعلت منهم مصدراً أولياً للخبر، ولاشك أن مشاهد "يوتيوب" التي يبثونها ستجعلهم صانعي تاريخ، الإعلام في أساسه وليد حاجة المجتمعات، والشاهد العيان هو وليد التعطش إلى الخبر، إلى معايشة اللحظة، معلوم طبعاً أن هناك شهوداً كذبوا أو بالغوا أو عمدت السلطة إلى فبركتهم، لكنهم انكشفوا جميعاً ولم يتمكنوا من تغيير مجرى الأحداث، ولولا الشهود لكانت جوانب كثيرة مما يجري في ليبيا أو سوريا ظلت مجهولة. لاشك أن الإصلاح على مختلف المستويات، باتجاه الانفتاح وإتاحة الشراكات مع مختلف فئات المجتمع، هو الذي سيصحح الأداء الإعلامي بتعزيز مهنيته، وكلما تأكد الاتجاه إلى دولة القانون كلما كانت الحقيقة مصانة، وكذلك حقوق الإعلاميين والمتلقين على السواء.