لم يعد الدولار الأميركي، يمتلك نفوذاً كبيراً اليوم، حيث فقد ما يقرب من 12 في المئة من قيمته خلال الفترة المضطربة التي بدأت مع انهيار مؤسسة "ليمان براذرز" عام 2008، كما فقد ما يقرب من 5 في المئة منذ عام 2010. في الوقت الراهن، يناقش علماء الاقتصاد احتمال"انتهاء عصر الدولار"، كما تصوره وسائل الإعلام كعملة عليلة، كما أن وضعه كعملة قانونية مدعومة بالثقة الكاملة للحكومة لم يعد في حد ذاته كافياً لاكتسابه الاحترام. وهو ما دفع في مجمله البعض للتساؤل: ألن نكون أفضل كثيراً في حالة عدم وجوده؟ تخيلوا أنكم قد استيقظتم غداً فلم تجدوا الدولار، وسمعتم أنه قد اختفى؟ وأن البنك المركزي الأميركي"الاحتياطي الفيدرالي"، قد توقف عن مهمته الخاصة بإمداد باقي البنوك بالنقود. فكيف ستستمرون في ممارسة أعمالكم في مثل هذه الحال؟ قد نتحول عندئذ إلى شيء شبيه بسوق كبير للمبادلات، أو دعنا نقول سوق خضار محلي. ولكن بدلًا من أن تقوم بائعة الجزر فيه، ببيع بضاعتها مقابل الدولار، فإنها قد تفضل مبادلته بالبصل الذي يباع في المحل المجاور، أو بسكين لتقشير الخضراوات. والمشكلة بالنسبة لهذا النوع من الأسواق، تتمثل فيما يصفه الأكاديميون بـ"عدم الاتفاق بين الحاجات". فبائعة الجزر قد لا تحتاج بصلاً، ومن هنا فأن هذا البصل ربما يتعفن في صناديقه، قبل أن تجد بائعته مشترياً. هذا المثل يبرز الأهمية التي تحتلها النقود كوسيط للتبادل، ومخزن للقيم. وينبني على ذلك افتراض مؤداه أنه في عالم لم تعد للولايات المتحدة عملة رئيسية فيه، سيكون هناك حافز لدى الجميع للبحث عن عملة بديلة لدى دول أخرى. والدول المحتملة هي أوروبا والصين. على الرغم من حقيقة أن الاثنين يعانيان في الوقت الراهن من مشكلات مالية: فأوروبا تعاني من أزمة ديون، في حين قامت الصين بالحد من استخدام عملتها في الخارج للحيلولة دون ارتفاع سعر صرفها. فلنتخيل بدلاً من ذلك، أننا لن نقبل بهذا الخيار، وسنرفض استخدم عملة دولة أخرى. في هذه الحالة علينا أن نتصور كم من الجزر، سنقدم للحصول على بصلة، وكم من البصل سنقدم للحصول على حبة بطاطس، وكم من البطاطس سوف نقدمها للحصول على سكين لتقشير الخضراوات. لا شك أن التعاملات ستكون غاية في التعقيد في غيبة وسيط للتبادل. ولا شك أننا في حال مثل هذه سوف ننجذب لسلعة معينة، نقوم باستخدامها كمعيار للتبادل. في فرجينيا عندما كانت محتلة من البريطانيين، كان (الدخان) في البداية هو السلعة المعيارية التي كان يتم على أساسها قياس قيمة جميع السلع الأخرى. ولم تكن التبادلات تتم على أساس تقديم دخان في "كرة مرة" يتم فيها شراء أشياء، وإنما كان يتم تقديم إيصالات بكمية معينة من الطباق يستطيع الشخص المعني الذي يتم شراء الأشياء منه الذهاب إلى مخزن من مخازن الدخان، للحصول على الكمية التي يستحقها. كان ذلك هو الإجراء الأكثر سهولة ولكنه كان أيضاً الإجراء الأكثر خطورة في الآن ذاته، لأنه من الممكن لأصحاب مخازن الطباق، أن يصدروا إيصالات تساوي كميات أكبر من الكميات التي يخزونها بالفعل، وهو ما دفع السلطات للتدخل، في نهاية المطاف لتنظيم المسألة، ومنع الممارسات غير القانونية. في عالم من دون دولار، سيترتب على ذلك، أن حق إصدار العملات الورقية، سيكون مقتصراً على عدد من الكيانات المنظمة - دعنا نطلق عليها اسم بنوك. كانت هذه هي الطريقة التي دخلت بها العملات التداول قبل الحرب الأهلية الأميركية في القرن التاسع عشر، وذلك عندما قامت الكيانات الجديدة (البنوك) بطباعة النقود وإقراضها. وفي ذلك الحين، اشترطت الأجهزة التشريعية المعنية على تلك البنوك الاحتفاظ بكميات من الذهب، أو الأوراق المالية بكميات كافية كغطاء قانوني للأوراق النقدية التي تقوم بإصدارها. وكانت المشكلة، كما هو متوقع أن الولايات جميعها لم تلتزم بفرض القواعد التنظيمية التي تضعها على كافة البنوك التي افتتحت فيها، فكانت بعض الولايات على سبيل المثال تسمح لبنوكها بتسجيل سندات حكومية وسندات سكة حديد في دفاترها بكامل قيمتها، في حين أن بعضها كان لا يساوي سوى عدة سنتات بالنسبة للدولار. وبالتالي فإنه عندما حدث تدافع على هذه البنوك لاسترداد قيمة البنكنوت، كان من المستحيل على أي بنك أن يستجيب لطلبات الجميع. لننتقل إلى قرننا الحادي والعشرين ونتساءل: هل سيقوم مزارعونا المحليون في سوق الخضراوات والفاكهة بالتحقق من قيمة كل عملة بنكنوت تقدم لها باستخدام موبايل ذكي(سمارت فون)، كي يتأكد كم جزرة تساوي تلك العملة قبل أن يقبل بها كأداة للتبادل؟ لو فعل كل مزارع ذلك، فلا شك أن التعاملات ستصبح بطيئة للغاية. هذا هو السبب الذي جعلنا نؤسس البنك المركزي الأميركي (الاحتياطي الفيدرالي)، الذي ينظم عملية إمداد العملات النقدية الورقية، ويدعم نظام الدفع، ويوفر السيولة اللازمة، بما يضمن تيسير المعاملات في الأوقات المضطربة مثل تلك التي تلت سقوط بنك "ليمان براذرز". إن نقاد الدولار يواجهون مهمة شاقة. وعندما أفكر في ترتيباتنا المالية الحالية، فإنني لا أملك سوى أن استعير عبارة قالها ونستون تشيرشل ذات يوم عن الديمقراطية: "إننا نعرف أن نظامنا الديمقراطي سيئ، ولكنه مع ذلك أفضل من كافة الأنظمة الأخرى". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باري ايشنجرين أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا-بيركلي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"