انطلقت الانتفاضة الشبابية في تونس ومصر، وها هي على الطريق إلى الانتصار في ليبيا واليمن وسوريا، مع الإشارة إلى أن بلداناً عربية أخرى تأخذ الآن طريقها إلى أحد الدروب، التي تفضي إلى مثل تلك الانتفاضة. نعلن ذلك مع القول بأن الخصوصيات النسبية لكل من تلك البلدان لا يمكن إلا أن تفصح عن نفسها، بقدر أو بآخر وعلى نحو أو آخر. في سياق ما أُنجِز من تينك التجربتين الأولييْن، كما في سياق تلك الأخرى، أخذنا نتبين الصعوبات القصوى التي تخترق العمليات المذكورة، فمن ناحية تونس ومصر، بدأت تبرز صعوبات ما بعد الانتصار، أي من مرحلة التأسيس الجديدة وما ينبثق من المشكلات والمعضلات والإشكاليات البسيطة والمركبة، المتأتية عنها. وقد نشر الإعلام المصري علامات حسَّاسة كبرى على ما يمكن تسميته "محاولات النكوص من قبل الثورة المضادة". وظهر ذلك جلياً في المحاكمات التي طالت الرئيس السابق وأسرته وكثيرين من أتباعهم، وكذلك في بعض التحولات الجديدة، التي طالت مسؤولين من العهد التونسي السابق. وبالطبع، لا ينبغي أن تؤرّق هذه المعطياتُ الجديدة العهدَ الجديد في كلا البلدين المعنيّين، لأن ذلك طبيعي في تاريخ الانتفاضات والثورات والتحولات التاريخية الكبرى. ذلك أمر، وأمر آخر يتمثل في البلدان العربية الأخرى، الداخلة في سكّة التغيير، دون أن تكون حتى الآن قد أنجزت مهماتها الأولى الحاسمة، نعني خصوصاً الثلاثة الأخرى، التي أشرنا إليها، يبدو الأمر أكثر تعقيداً وخطورة واضطراباً. ففي هذه الحال، يُشار إلى أمرين يجري تسويقهما راهناً بجهود هائلة، بوصفهما "السَّببين الحقيقيين الحاسمين" الكامنين وراء انتفاضات الشباب العرب. ففي ليبيا واليمن وسوريا لم توجد، حسب ذلك، أسباب داخلية أشعلت الأوضاع وسارت بها إلى نتائج كبرى كارثية، كما يعلن الإعلام في تلك الدول، وإنما توجد أسباب ثلاثة تتحدّر من الخارج وتفعل فعلها، دون أن يكون لذلك في دواخل ليبيا واليمن وسوريا أي تأثير مهم. وتفصيل الأمر يقوم، كما يقولون، على أن أفراداً ومجموعات من "المُندسِّين" القادمين من الخارج، يدخلون إلى تلك البلدان العربية ويعملون ما يعملون فيها من الأعمال التخريبية الإجرامية المشبوهة. أما السبب الثاني لاندلاع الانتفاضات في البلدان العربية الثلاثة المذكورة، فيتحدد -في رأي سادة تلك النظم- "بوجود مؤامرات خارجية معادية" يحبكها الأعداء (المنظّمون والمتمرسون) ضد ليبيا واليمن وسوريا. ويحددون هؤلاء الأعداء بالسلفيين والشماليين والجنوبيين". وفي السَّببين الاثنين المذكورين لم يقدّموا أحداً للمحاكمة (ونتمنى أن يفعلوا ذلك إن وجد)، فظل حديثهم ينطلق من وجود أشباح هنا وهناك لتخريب البلدان المذكورة. أما السبب الثالث في عملية التخريب هذه فيحدده المسؤولون، بتلك البلدان، في وجود "عملاء" يعملون لصالح "العدو". نلاحظ من ذلك كله تزويراً لأسباب وأهداف الانتفاضات الشبابية العربية انطلاقاً من القول بأن البلدان العربية المذكورة لا توجد فيها مشكلات ولا خراب ولا انهيارات في السلطة والثروة الوطنية والإعلام وكل الحقول المجتمعية الأخرى. وبهذا الاعتبار، نجد أمامنا عملاً إجرامياً تقوم به أوساط هنا وهناك، في النظم العربية، لتدمير أنبل حركة تغييرية عربية حتى الآن في التاريخ العربي، مع التشديد كذلك، على ضرورة اكتشاف أية مؤامرة مزعومة -إنْ وجدت- والتعامل معها كما ينبغي.