امتدت إلى المغرب أيادي الإرهاب الضالة والخبيثة، وأبرزت مخططاً يكشف نذالة المرَقة الذين يكفِّرون المسلمين بغير حق، حاكمين ومحكومين، ويعتبرون الأراضي العربية أراضيَ للحرب والخراب، وجاء تنفيذ العملية الإرهابية يوم الخميس الماضي باختيار ماكر للمكان والتوقيت. فالمكان هو مدينة مراكش الحمراء التي أصبحت قبلة للسياح من كل الأمصار، ومكاناً لتعايش كل الحضارات والثقافات، وهي ثالث أكبر مدينة مغربية، وإلى وقت قريب في القرن العشرين كان اسم مراكش يعني بلاد المغرب الأقصى كلها، واتخذها المرابطون والموحدون والسعديون عاصمة لهم؛ وقال فيها صاحب "وفيات الأعيان": "مراكش مدينة عظيمة بناها الإمام يوسف بن تاشفين". وذكرها صاحب "معجم البلدان" بقوله: "مراكش أعظم مدينة بالمغرب وأجملها"؛ ووصفها المؤرخ المراكشي ابن المؤقت وقال: "إنها مدينة لم تزل من حيث أسست دار فقه وعلم وصلاح، وهي قاعدة بلاد المغرب وقطرها ومركزها وقطبها، فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، بسيطة الساحة ومستطيلة المساحة، كثيرة المساجد، عظيمة المشاهد، جمعت بين عذوبة الماء واعتدال الهواء، وطيب التربة، وحسن الثمرة، وسعة الحرث وعظيم بركته". وظلت المدينة بمنأى عن الأعمال الإرهابية منذ الرابع والعشرين من أغسطس 1994، حينما اقتحم شخصان ملثمان فندق آسني وأطلقا النار على العديد من السياح، ما أسفر عن مقتل سائحين إسبانيين وجرح سائحة فرنسية. وقد أودى الحادث آنذاك باقتصاد مراكش إلى هلاك مبين لأن نصف ساكنتها أو يزيد تعتمد على عائدات قطاع السياحة، واستعادت المدينة أنفاسها، لتضرب أيادي الإرهاب الأسبوع الماضي هذه المدينة، وبالضبط مطعم أركانا بجامع الفنا. وجامع الفنا الذي صنفته اليونيسكو تراثاً إنسانيّاً، ساحة مشهورة يستهوي جمالها كل زائر، وتقدم له باقة عطرة من تاريخ المشاعر والأسماء والأحداث، حيث في وسطها تنتصب المطاعم الشعبية بدون مكيفات أو دواخل تقنية حديثة، وعلى مدار تلكم المطاعم وفي أماكن أخرى تنتظم حلقات "الحكواتيين" حيث يسردون حكايات ألف ليلة وليلة وأمجاد عنترة بن شداد وبطولات سيف بن ذي يزن، وشجاعة سيدنا علي كرم الله وجهه؛ ويقدم الفنانون مجموعات غنائية مغربية اشتهرت خلال الربع الأخير من القرن الماضي كـ"جيل جيلالة" و"ناس الغيوان" و"إزنزارن" و"لمشاهب" و"أودادن" وغيرها؛ وهناك حلقات تهريجية لا يمكن أن يشملها أي وصف أو تصنيف لأن ساحة جامع الفنا تقبل بالجميع وتتسع للجميع. نفهم إذن سبب اختيار الإرهابيين لهذا المكان، والكثير من الأوساط تشير إلى تنظيم "القاعدة" في هذا الحدث الإرهابي، حيث بأيام قلائل قبل الانفجار، ظهر في شريط مصور، على موقع "يوتوب"، خمسة أشخاص مسلحين ويلبسون زيّاً أفغانيّاً يتوعدون المغرب بشتى أنواع التهديدات. ومنذ انطلاق ثورات تونس ومصر، تراجعت عمليات "تنظيم القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي" واكتفى زعماؤه بعمليات خطف الرهائن؛ وتمكنت السلطات المغربية من تفكيك عدة خلايا إرهابية، والعثور على ترسانة خطيرة من الأسلحة مخبأة في مواقع بمنطقة "أمغالا" البعيدة عن مدينة العيون بـ 200 كلم، وكان دافنوها يخططون لتنفيذ عمليات إرهابية في عدة مدن مغربية باستعمال سيارات متفجرة وأحزمة ناسفة واستهداف مواقع استراتيجية في اقتصاد المغرب؛ وتعتبر عملية الخميس الماضي عملاً إجراميّاً خبيثاً لا يمكن أن يقترفه إلا أمراء الدم من الذين تجري في عروقهم مياه الوادي الحار الآسنة وليس دماً يصل إلى قلب ينبض بالحياة. كما أن توقيت العملية له أكثر من دلالة؛ إذ صادف مرحلة تاريخية حاسمة يمر بها المغرب وهو استعداد دخول هذا البلد إلى مصاف الدول الديمقراطية الكبرى دون إراقة ولو قطرة واحدة من الدم، وقد تحدثنا مراراً في صفحات هذه الجريدة عن التعديل الدستوري وعن المسلسل الديمقراطي الذي عرفه المغرب والخطوات التي قطعها أو بدأ يقطعها؛ إذ يمر من مرحلة الانتقال الديمقراطي الممدد الذي بدأ منذ سنة 1998، تاريخ وصول الاشتراكيين إلى الوزارة الأولى؛ إلى مرحلة "الانتقال الميثاقي" على شاكلة بعض الدول الأوروبية المتوسطية كإسبانيا والبرتغال واليونان، حيث يوقع اللاعبون في المسرح السياسي على اتفاق نهائي يأذنون بدخول المؤسسات والأفراد في مسار سياسي جديد. ويرى الكثير من المحللين في المغرب أن من بين دوافع هذا التفجير إيقاف عجلة هذا الانتقال الديمقراطي والرجوع بالبلد إلى العمل الأمني الذي يوثر الأمن على الديمقراطية والدخول في سلسلة لا متناهية من الأخطاء التي غالباً ما تنتهي بالكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والرد المثالي والصائب بل والقاطع على العمليات الإرهابية هو أن نقطع الشك باليقين والارتجال بالحكمة وألا توظف هذه العملية في زرع بذور الفتنة والشك بذريعة الاستقرار وأمن الدولة؛ وقد كان العاهل المغربي الملك محمد السادس واضحاً في توجيه عمل وزارة الداخلية والعدل بعد التفجير: "الشفافية والتواصل مع الرأي العام، والعمل وفق القانون.." وهي رسالة واضحة ومزدوجة إلى بعض أجهزة الدولة التي لم يكن عملها مقبولًا بعد أحداث الدار البيضاء (مايو 2003)، وإلى الرأي العام المغربي من أجل استعادة ثقته بالمؤسسات. ويكفي لكل متتبع حصيف أن يرجع إلى تاريخ الانتقال الديمقراطي في العالم، في أوروبا الغربية ثم الشرقية وفي أميركا الشمالية ثم الجنوبية ليقتنع أن الانتقال الديمقراطي هو أصعب مرحلة يمكن أن تمر منها المؤسسات والأفراد، وتكون محفوفة بالمخاطر والأشواك، ويكون العديد من الفاعلين إما خائفين على أنفسهم وذويهم من الفوضى والمجهول وإما على مصالحهم من الضياع والاندثار وإما على أعمالهم من المساءلة والمحاسبة. والجواب عن إرهاب مراكش هو السير قدماً في ورش الإصلاح وتجذير دعائم الديمقراطية والمؤسسات القوية التي لا تخاف في الله لومة لائم ولا إرهاب مرهب، وهي شبيهة بتلقيح الجسم ضد كل الفيروسات فتصبح له مناعة وحصن حصين.