مع دخول الإنترنت عصر الاستخدام المدني في تسعينيات القرن الماضي واتساع رقعة انتشاره عالميّاً، خرج علماء الاتصال والاجتماع والمفكرون بأطروحات ونظريات حول تأثيره في المجتمعات المعاصرة، وكيف أن هذه الوسيلة الاتصالية الجديدة ستعمل على إيجاد مجتمعات افتراضية وعوالم رمزية. وجاء هاورد رينجولد عام 1993 بنظرية المجتمعات الافتراضية "Virtual Communities" وقال فيها إن أفراد هذه المجتمعات الافتراضية هم من أماكن متفرقة في أنحاء العالم يتقاربون ويتواصلون عبر شاشات الكمبيوتر والبريد الإلكتروني، يتبادلون المعارف فيما بينهم ويكوّنون صداقات، ويجمع هؤلاء اهتمام مشترك، ويحدث بينهم ما يحدث في عالم الواقع من تفاعلات، وتتم عن طريق آلية اتصالية هي الإنترنت التي بدورها ساهمت في حركات التشكل الافتراضي. في 2004 ظهر "الفيسبوك" كأقوى المجتمعات الافتراضية وأكثرها تطوراً. وكان في البداية عبارة عن شبكة تواصل اجتماعي بين الأصدقاء، ليصبح اليوم ثاني أكثر موقع في الإنترنت حيوية بعد "جوجل"، وقد أطلق عليه دولة الـ"فيسبوك" التي يبلغ عدد سكانها 500 مليون نسمة، ويحكمها شاب لم يبلغ الثلاثين من العمر اسمه مارك زوكربيرغ مؤسس ومالك هذه الإمبراطورية الإنترنتية. هذا العالم الافتراضي وخلال 5 سنوات منذ تأسيسه لم يعد فقط موقعاً للتواصل بين الأصحاب، بل للمؤسسات والشركات والمجتمعات المدنية، والحكومات وحتى رؤساء الدول والأدباء والمفكرين والعلماء والمشاهير ونجوم الفن وكبار الشخصيات ولمحبيهم ومعارضيهم. بل إن "الفيسبوك" أصبح وسيلة لكل من هب ودب يضع فيها ما يشاء ومتى ما شاء وكيفما شاء دون قيد فكري أو ديني أو حتى أخلاقي. وفي عصر الثورات العربية، أصبح "الفيسبوك و"تويتر" مرتبطين بشكل مباشر بما شهدته بلدان عربية من ثورات واحتجاجات وتظاهرات أدت حتى الآن إلى سقوط نظامين عربيين وأنظمة أخرى تقاتل من أجل بقائها.. ولم يكن "الفيسبوك" والمواقع الأخرى مثل "تويتر" و"اليوتيوب" فقط أماكن افتراضية التقت فيها الشعوب العربية الثائرة، وناقشت قضاياها وهمومها بعد أن انغلقت في وجوهها الفضاءات الإعلامية الرسمية، بل أصبح هذا "الفضاء الافتراضي" وسيلة فعالة لتغيير الواقع السياسي. ولا يمكن اعتبار "الفيسبوك" و"تويتر" سببين رئيسيين لزوال الأنظمة، إلا أنه يجب عدم الاستهانة بتأثيرهما الكبير بدءاً من إتاحة الفرصة أمام الشعوب للتعبير عن ثورتها في العالم الافتراضي ثم نقل هذه الثورة إلى العالم الواقعي مثل ثورة 25 يناير المصرية. هل ستصبح هذه العوالم الافتراضية نواة لتغيير العوالم الواقعية في شتى مناحي الحياة؟ وهل ستتعاظم تأثيراتها لتسيّر الحياة البشرية؟ وهل سيكون المستقبل بيد من هو أكثر تنظيماً وقدرة على التأثير في سكان العوالم الافتراضية أو من يمتلكها وله القدرة على تسييرها وتوجيهها؟ قد يقول أحدنا إن هذه الافتراضات جزء من خيالات كتاب سيناريوهات أفلام الخيال العلمي، ولكن الواقع الذي نعيشه هذه الأيام كان في حسابات البشرية قبل عقود ماضية جزءاً من الهراء والخيال المبالغ فيه بالنسبة للناس في ذلك الوقت. نحن في دولة الإمارات فاعلون جدّاً في العالم الافتراضي وشبكات التواصل الاجتماعي.. فحسب الإحصاءات المعلنة، تعد دولة الإمارات من أكثر دول منطقة الشرق الأوسط من حيث عدد أفرادها دخولاً على "الفيسبوك"، ويبلغ عدد المشتركين في الموقع مليوناً و600 ألف مشترك يشكلون 36 في المئة من إجمالي السكان بالدولة. إن فئة المراهقين والشباب هم الأكثر حضوراً وتفاعلًا في شبكات "الفيسبوك" و"تويتر". وفي اعتقادي أن هناك ضرورة اجتماعية لدراسة طبيعة هذا الاستخدام وبشكل علمي ومنهجي. ومن المهم البحث والتنقيب في أغوار هذه الشبكات وتحديد أنماط وعادات التعاطي في هذه المواقع من قبل الأجيال الناشئة، ليس من باب الترف العلمي وإنما لمعرفة أفكار واهتمامات جيل الإنترنت و"الفيسبوك"، الذي قد يقلب عالمه الافتراضي إلى الواقع في يوم ما.