كنت قد كتبت في هذه الصفحة مؤخراً مبديّاً دهشتي من أن حركات الاحتجاج والمطالبة بالتغيير التي شهدها عدد من البلدان العربية منذ بداية العام الجاري لم تمتد إلى الشعب الفلسطيني إلا في أضيق الحدود، مع أن هذا الشعب هو الأحوج بكل تأكيد إلى ما يحرك مياه الانقسام الراكدة التي ألحقت بالقضية أبلغ الضرر. ومنذ أيام قليلة، وبالتحديد في السابع والعشرين من الشهر الماضي، أعلن في القاهرة على نحو مفاجئ أن حركتي "حماس" و"فتح" قد تجاوزتا الانقسام، وتوصلتا إلى اتفاق للمصالحة يتضمن تفاهماً على نقاط الخلاف العالقة بينهما، وتشكيل حكومة تكنوقراط مؤقتة تشرف على إجراء الانتخابات العامة. وعلى رغم ما يحمله هذا الاتفاق من مدلولات مشجعة وما يتوقع له من تداعيات إيجابية على النضال الفلسطيني فإنه للأسف لا يغير من التحليل الذي كنت قد ذهبت إليه، إذ لم يتم الاتفاق بضغط شعبي على النخبتين الحاكمتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنما أنجز بسبب تغيرات وقعت على الصعيدين العربي والإقليمي بالإضافة إلى استمرار المواقف الدولية من القضية الفلسطينية على سلبيتها بما يؤدي إلى ركود القضية فيما تواصل إسرائيل بدأب مشروعها الاستيطاني في الضفة الغربية عامة والقدس الشرقية خاصة. فعلى الصعيد العربي يعتبر الاتفاق واحداً من أهم تداعيات الثورة المصرية التي أفضت إلى رؤية جديدة للسياسة الخارجية المصرية قد لا تتضمن تغيراً جذريّاً، ولكنها تصفي عدداً من الخلافات المفتعلة التي ارتبطت بسياسات النظام السابق، وتتجاوز مرحلة "تدليل" إسرائيل والانصياع لرغباتها أو على الأقل السكوت عن جرائمها بحق الشعب الفلسطيني، وكذلك مرحلة تجنب الصدام مع الإدارة الأميركية عامة وفي شأن الصراع العربي- الإسرائيلي خاصة. وقد ترتب على ذلك "تطبيع" سريع للعلاقات مع سوريا و"حماس" وتغير الموقف المصري من الحصار على غزة، وإعلان النية في إقامة علاقات طبيعية مع إيران، وبالتالي زالت الممانعة من قبل "حماس" ومن ورائها سوريا وإيران لجهود المصالحة المصرية، ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن الأوضاع الداخلية الراهنة في سوريا ربما تكون قد أصابت "حماس" بنوع من القلق من مستقبل الدعم السوري لها فقررت أن تنتهز فرصة التغير الإيجابي في السياسة المصرية، ومن ضمنه التوقف عن الانحياز إلى "فتح" على حساب "حماس"، وتمضي قدماً في طريق المصالحة. أما على الصعيد الدولي فمن المعروف أن الموقف الأميركي من المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية لم يؤد إلى تحرك إيجابي في هذه المفاوضات بسبب النموذج الراسخ في السياسة الخارجية الأميركية وهو المضي قدماً في اتخاذ خطوات والقيام بمبادرات بشأن هذه المفاوضات طالما أن إسرائيل لا تعترض عليها، وبمجرد وصول هذه الخطوات والمبادرات إلى ما تعتبره إسرائيل خطوطاً حمراء تتراجع السياسة الأميركية على الفور خشية فقدان تأييد اللوبي الصهيوني للرئاسة الأميركية، وكان آخر القضايا الفجة في هذا الصدد هو ربط استئناف المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية بوقف الاستيطان -وهو فكرة أميركية أصلاً- وبمجرد التأكد من أن إسرائيل لا توافق على وقف الاستيطان في أي ظروف تراجعت الدبلوماسية الأميركية عن الفكرة، بل ووصل بها الأمر إلى أن تكون الصوت الوحيد المعارض لمشروع قرار في مجلس الأمن بشأن رفض الاستيطان كان الفلسطينيون والعرب يريدون تمريره في المجلس. وخطورة هذا التحليل إن صح -وأعني به أن اتفاق المصالحة تم انعكاساً لمتغيرات خارجية وليس لضغوط داخلية- أنه يمكن أن يتعثر أو ينهار لا قدر الله في حالة تغير البيئة الخارجية للعمل الفلسطيني، وخاصة أن الاتفاق يواجه تحديات داخلية وخارجية. وأهم التحديات الداخلية أن الاتفاق لا يعني بالضرورة اتفاقاً في الرؤى السياسية أو منهج العمل من أجل تحقيق الأهداف، فعندما سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي في تعبيره عن رفض الاتفاق إلى القول إن على عباس أن يختار بين "حماس" وبين السلام رد عليه الأخير بأن على إسرائيل أن تختار بين الاستيطان والسلام، لكنه أضاف مطمئناً ما يفيد بأن شيئاً لن يتغير في النهج التفاوضي الفلسطيني لأن ملف التفاوض سيظل بيد منظمة التحرير، وهنا بادرت "حماس" على الفور بالرد على الرئيس الفلسطيني بأن ملف التفاوض سيكون ضمن صلاحيات القيادة الفلسطينية الموحدة التي سيتم تشكيلها في المرحلة الانتقالية، وأن الحركة لن تقبل التفاوض مع إسرائيل. وعلى الصعيد الإقليمي مثل الاتفاق صدمة لإسرائيل التي رأت أنه لا يمكن لعباس أن ينجز سلاماً معها ومع "حماس" في الوقت نفسه لأن "حماس" تسعى إلى تدمير إسرائيل، وبدأت الحكومة الإسرائيلية في اتخاذ إجراءات اقتصادية عقابية ضد السلطة الفلسطينية من بينها تجميد تحويل الضرائب التي تقوم الحكومة الإسرائيلية بتحصيلها لصالح حكومة الضفة، وقد ذكر بعض المصادر أن تقريراً سريّاً أعده قسم البحوث بوزارة الخارجية الإسرائيلية قد توصل إلى أن الاتفاق سيؤدي إلى انهيار السياسة الأميركية في المنطقة (ربما كان المقصود بذلك أن نجاح الاتفاق يمثل تحديّاً صارخاً للسياسة الأميركية يمكن أن تتبعه تحديات أخرى)، والأخطر -كما ذهب التقرير- أن اعتراف دول أوروبية بحكومة للوحدة الوطنية الفلسطينية سوف يؤدي إلى إضفاء الشرعية الدولية على حركة "حماس". ولا شك أن إسرائيل بصفة عامة، وبغض النظر عن اتفاق المصالحة، تمر بحالة من القلق والارتباك بسبب التطورات الأخيرة في المنطقة خاصة على ضوء ما اعتبرته توجهات "عدائية" للحكومة المصرية الجديدة. أما على الصعيد الدولي فقد ذهبت تقارير إلى ما يفيد بأن الإدارة الأميركية ترغب في احتواء الحدث والمحافظة على المسار التفاوضي، وبالتالي فإنها تتجه إلى تقديم تنازلات "أساسية" للفلسطينيين لضمان استئناف المفاوضات من بينها "مرجعيات أميركية في شأن عملية السلام"، وتوقعت مصادر أن يكون اتفاق المصالحة عامل ضغط على أوباما لعرض تسوية تستند إلى حدود 1967 مع تبادل أراضٍ متفق عليه، وبدء مفاوضات "جدية" في جميع القضايا الجوهرية، وتحديد جدول زمني للمفاوضات، وكلها مطالب فلسطينية. والواقع أن هذا التحرك الأميركي حتى لو تم سيكون مآله الفشل أولاً لأن هذه هي دروس الخبرة المستمدة من الدور الأميركي في عملية التسوية، والتي تشير إلى أن أي اعتراض إسرائيلي على فحوى هذا الدور يؤدي إلى إفشاله، وثانيّاً أنه يطرح كالعادة إطاراً للتفاوض وليس تصوراً محدداً للتسوية، وثالثاً لأن أوباما قد بدأ بالفعل حملته الرئاسية الثانية التي يكون فيها معرضاً أكثر من أي وقت آخر لضغوط اللوبي الصهيوني. أما الموقف الأوروبي فسيكون عاملاً داعماً لاتفاق المصالحة بحكم ما رشح عن هذا الموقف تجاه حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، والذي يشير إلى أن الاتحاد الأوروبي لن يقاطع هذه الحكومة، وسيكون هذا إن حدث واحداً من أهم الثمار الإيجابية للاتفاق بحكم ما سيضفيه من شرعية على حركة "حماس". ولكن التحديات تبقى هائلة، ومن ثم فإن الطريق أمامنا ما زال طويلاً ومليئاً بالعثرات، إلا أن الاتفاق بالتأكيد تطور يجب أن يُحتفى به، وأن يُحض الفلسطينيون على الحفاظ عليه ومواجهة صعوبات تنفيذه، وهو خير دليل على أن التطور الإيجابي في الأوضاع العربية يصب في التحليل الأخير في صالح النضال الفلسطيني والوضع العربي في معادلة الصراع مع إسرائيل.