عندما نشاهد الذين يتساقطون، في بعض الدول، كأوراق شجر خريفية في مسيرات سلمية، وتعلن أسماؤهم شهداء للوطن... فإن تساؤلاً يلح لماذا يقامر هؤلاء بأرواحهم في مهب الريح معرضين في أي لحظه لحميم النيران ولفرصة الموت المفاجئ الصعب؟ في لافتاتهم وأعلامهم رد واحد هو الوطن. وهو الحب المتجذر في الروح وكأنه ماء الحياة الوحيد المرتبط بالشرف، وبكرامة الإنسان، فالموت لديهم لم يعد يخيفهم، ولا كوابيس التعذيب التي صارت تتجه نحو الأطفال في صور مروعة لمن تم تعذيبهم لإرهاب ذويهم، ولكن ذويهم ازدادوا غضباً، وصار الأمر لديهم سيان، وبلا نظرة للخلف حتى لايتراجعوا، ولا يتذكروا كم من المسؤوليات خلفهم. فقد ذابت مشاعر التوجس والخوف من العواقب، وصار الحب للأرض هو إعلان رسمي لحالة الولع الجميل، الذي يجعل هذا الشاب الذي مازالت الحياة تتفتح أزهارها أمامه بصدر عار، وبإصرار على أنه فقط يريد الكرامة لا شيء غير الكرامة. فالذل في تلك البلدان والرقابة القسرية والبطش صنع حالة هوس غاضب والرفض لكل هذه الممارسات اللاإنسانية، فطاقة الاحتمال لها عمر افتراضي وتتحول بعدها إلى انفجار مدمر لا سبيل للتحكم في آثاره. فالذي يسرق أموال تلك البلدان ويعذب أبناءها، والذي يراقب أبناء الوطن ليس من الوطن، ولم يجرب حب الوطن بمعناه المتفرد الأصيل. فما معنى أن تخلو الخزائن؟ السبب أن هناك من تآمر لسرقة تلك البلدان من أهلها. وماذا كان يضرهم لو أنهم انصتوا لصوت هؤلاء الأبرياء، ولصدقوا أن لصراخهم معناً قديماً وعميقاً يعكس كل ما عانوه لعقود طويلة مضت دهراً لمجاهرين بمعصية الصمت والانتظار للمجهول ما أغلى الأوطان... بكل همومها وعذاباتها وقهرها، فالوطن لأهله طال الوقت أم قصر وأهله الشرفاء يخرجون اليوم فقط لأنهم يعرفون حق المعرفة ماذا يعني الوطن وماذا يعني حب الوطن. حتى لو تساقط المئات في تلك البلدان، فإن الحرية بالنسبة لشعوبها لها ضريبتها، والوطن بالنسبة لهذه الشعوب، يستحق أن يموتوا من أجله، وأن يرووا جدب روحه بدمائهم العاشقة حتى أطراف الأصابع. فلا يستغربن أحد من كل هذه الدماء المراقة إنها حكاية الحب الأبدي الذي يجعل الحياة رخيصة في مواجهة الاستبداد، فقبل عشرات السنين كان أجداد هؤلاء المسالمين المتظاهرين يثورون في بلدانهم ضد فرنسا أو بريطانيا أو إيطاليا، وكانوا يموتون ضد كثافة العدة والعتاد، وهم المقاومون ببناء وحدتهم. وفي النهاية كان الانتصار حليف العُزّل، واليوم تأتي القصة بذات الشغف بالوطن، لولا أن العدو هذه المرة هم من أهل الوطن ذاتهم، ولعله الأكثر صعوبة ومرارة أن يموت هؤلاء، ولكن بيد أهليهم. ورغم هذا فإنه لا يضرهم من يقتلهم، المهم أن للوطن كلمته في هذه البلدان، التي علت بأصوات هؤلاء اليافعين الذين قرأوا التاريخ جيداً وعرفوا أن النصر للشعوب، وإن طال الزمن.