ثلاثة مآزق كبرى، ومن العيار الثقيل، دفعت "فتح" و"حماس" إلى المصالحة. المأزق الأول على المستوى السياسي الداخلي، على صعيد السلطة الفلسطينية في رام الله وعلى صعيد حكومة "حماس" في غزة. هنا وهناك صار الانسداد والفشل هو خلاصة الخيارات السياسية والمسلحة. خيار المفاوضات فشل مع العنجهية الإسرائيلية وتواصل سياسات التوسع والاستيطان المترافق مع تراجع الإدارة الأميركية أمام صلف نتنياهو. وقد بات من الواضح تماماً أن استمرار هذا الخيار لا يعني سوى منح شرعية غير مباشرة لكل السياسة الاحتلالية والاستيطانية، وتمكين إسرائيل من المضي في كل ذلك مع الظهور أمام العالم بمظهر الحريص على السلام. وفي المقابل، خيار "المقاومة" المسلحة الذي ترفعه "حماس" وبالشكل المطبق لم يعد له معنى عملي سوى إطلاق الصواريخ التي جرّت على قطاع غزة حرباً مدمرة، وما تزال تجر على القطاع وأهله ردود فعل وحشية من قبل إسرائيل. و"حماس" نفسها أصبحت أكثر الأطراف في القطاع حرصاً على ملاحقة مطلقي الصواريخ وإيقافهم. لم يتبق من مشروعي ونهجي المفاوضات والمقاومة سوى بقايا متعثرة، وكل منهما كان قد اشتغل على إفشال الآخر أكثر مما اشتغل ضد إسرائيل نفسها في السنوات الماضية. والمأزق الثاني على المستوى الإقليمي حيث التغير الحاد في المشهد الإقليمي وانكشاف ظهر "فتح" و"حماس" إقليميّاً كلاً على حدة بما أجبرهما على الخضوع لمنطق المصالحة. كأن تحقيق المصالحة احتاج إلى حدوث انقلاب إقليمي هائل تمثل في سقوط أنظمة واهتزاز أخرى وتبعثر المحاور الإقليمية نتيجة سلسلة ما تزال تتفاعل من الثورات العربية. سقطت مصر المباركية التي كانت الداعم والحاضن الإقليمي الأهم للسلطة في رام الله، وبسقوطها ضعف ما عرف بـ"محور الاعتدال العربي" إلى درجة كبيرة. وقد تراجع الملف الفلسطيني والسلطة الفلسطينية، في سياق كهذا، إلى أن يصبح آخر هموم محور الاعتدال بشكل عام. ومع ذلك السقوط الذي بعث في أوصال السلطة الفلسطينية مخاوف عميقة انتعشت "حماس" مؤقتاً، بل وتسرعت أيضاً في قراءة الموقف بمظنة أن الرياح تجري في اتجاه أشرعتها. ولم يطل ذلك الانتعاش طويلاً إذ انتهى مع توالي الانهيارات في معسكر ومحور "دول الممانعة". فهنا سرعان ما أدت الثورة السورية التي ما تزال مشتعلة إلى ارتباك عميق عند "حماس" وهي التي تعتبر دمشق حاضنتها الإقليمية الأهم. وقد ظهرت "حماس" (و"حزب الله" أيضاً) في الصورة العامة للثورة السورية وكأنهما أدوات وظيفية بيد النظام السوري الذي اعتاش على شعارات "المقاومة" والمتاجرة بالقضية الفلسطينية. واستخدام دبابات ومدرعات الجيش السوري في محاصرة وقتل الشعب الأعزل في المدن السورية يعني أن كل من يتحالف مع النظام القائم يتخذ موقفاً ضد الشعب السوري وتطلعاته المشروعة في الحرية والكرامة. ولا يمكن تصور بقاء العلاقة الحمساوية-السورية، أو علاقة أي حركة مقاومة فلسطينية أو غير فلسطينية مع النظام السوري، كما كانت من قبل لأن ذلك يعني تآكلاً متزايداً في الشعبية على الضد من الأغلبيات الكاسحة في الشعوب العربية التي عبرت عن اصطفافها مع الشعب السوري. وفي محور "الممانعة" هناك تدهورات إضافية تلقي بتبعاتها على "حماس". نعرف أن تحالف "حماس" مع إيران براغماتي وهو ما تحاول "حماس" أن تشرحه وتبرره على الدوام، وأنه مدفوع بحكم الضرورة وإغلاق الأبواب أمام الحركة في السنوات الماضية. بيد أن السياسة الإقليمية الإيرانية تنتقل من مستوى إلى آخر، كما تزداد تحدياً للعرب والخليج على وجه التحديد. والمأزق الثالث على المستوى الخارجي ومتعلق باستحقاقات شهر أيلول (سبتمبر). فمن ناحية أولى هناك "شبه الوعد" أو "الأمل" الأميركي والدولي بقيام دولة فلسطينية في ذلك التاريخ، وهو التاريخ الذي حددته السلطة الفلسطينية أيضاً لاستكمال البنية التحتية للدولة الموعودة. ومن ناحية ثانية يريد الفلسطينيون استخدام هذا التاريخ للضغط على العالم من أجل الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران، وعبر الاعتماد على آليات القانون الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، وما يتطلبه هذا الاعتراف من جهود دبلوماسية غير عادية. وتحتاج هذه الجهود، سواء أكانت مثمرة أم لا، إلى صوت فلسطيني موحد يتحدث مع العالم. فخلال السنوات الخمس الماضية استخدم الإسرائيليون وكل من يدعمهم في العالم، سواء من اللوبيات اليهودية في الولايات المتحدة أو غيرها، الانقسام الفلسطيني ذريعة لتبرير تحلل إسرائيل من أية التزامات، أو للوقوف ضد أية ضغوط دولية ممكن أن تمارس ضدها. كان يُقال دوماً إن الفلسطينيين منقسمون وإنه لا يمكن المضي قدماً في أي اتجاه وسبب ذلك هو الانقسام الفلسطيني ويتحمل الفلسطينيون مسؤولية ذلك. ولذا فإن المصالحة الفلسطينية تعمل على إبطال هذا المسوغ وكشف ذرائعيته. إذ قبل الانقسام الفلسطيني كانت هناك سلطة فلسطينية تنطق دوليّاً باسم الفلسطينيين منذ عام 1993 ولم يتحقق شيء وإحالة الانسداد على عاتق الفلسطينيين ليست سوى محاولة خبيثة، لكن ناجحة، من قبل أعداء الفلسطينيين. والآن يستطيع الفلسطينيون أن يذهبوا إلى مجلس الأمن، أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو يتحدثوا لأي طرف دولي من دون أن يستخدم أي من تلك الأطراف قصة الانقسام الفلسطيني وعدم وجود صوت فلسطيني موحد. بيد أن الشيء المثير حقاً هو الموقف الأميركي، وبعض المواقف الأوروبية المترددة التي استقبلت المصالحة الفلسطينية إما بعدم القبول أو الفتور. نفهم دوافع الموقف الإسرائيلي المتوتر، على رغم أن الإسرائيليين كانوا أكثر الأطراف وقاحة في استخدام مبرر الانقسام الفلسطيني. لكن الموقف الأميركي والأوروبي لا يمكن فهمه ويجب إدانته وكشفه.