يقول الأديب البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984" إن هدف لغة التضليل ليس توفير واسطة من وسائط التعبير لرؤية وأفكار أنصار "إينجسوك" (الاسم الذي يطلقه أورويل على النظام الحاكم في روايته)، وإنما جعل كل أنماط التفكير الأخرى مستحيلة. فهدف لغة التضليل كان هو استبدال ما نسميه اليوم اللغة المعيارية، وذلك حتى لا تظل اللغة تمتلك مصطلحات يمكن التعبير بها عن أفكار محظورة. والواقع أن فكرة أورويل لم تكن خيالاً بالكامل، مثلما نلاحظ اليوم في ظل انتشار وهيمنة لغة مخدَّرة و"مصحَّحة" سياسياً في الخطاب الأميركي والبريطاني. ولنأخذ هنا مثلاً تقارير رسمية وصحفية صدرت مؤخراً حول الوثائق العسكرية السرية المتعلقة بمعتقل جوانتانامو ونزلائه، تم تقديمها لصحف "ماكلاتشي" من قبل منظمة "ويكيليكس" المناهضة للسرية. فالنزلاء ليسوا "سجناء" وإنما "معتقَلون". إنهم ليسوا سجناء لأن السجناء أشخاص يُحبسون في مكان آمن بعد أن يودعوا السجن من قبل هيئة قانونية لارتكابهم جرائم، أو في انتظار محاكمة لأنهم ارتكبوا جريمة. أما المعتقلون في جوانتانامو، فلم توجه لهم أي تهم، وفق القانون ولم يُحكم عليهم بالسجن منذ إنشاء المعتقل عام 2002، وليس هناك أمل في محاكمتهم أمام محاكم مدنية أميركية أو محاكم عسكرية. ويذكر هنا أن إدارة أوباما أعلنت مؤخراً أن المعتقلين قد يمثلون أمام "لجان عسكرية"، وهي شكل من أشكال المحاكمة لن يتمتعوا فيه بالحقوق التي يتمتع بها المدعى عليهم في القضاء الأميركي العادي أو العسكري، أو في المحاكم الجنائية الدولية. ثم إن "المعتقَلين" يُحرمون من حق المتهمين الذين توجَّه لهم تهم في التمثيل القانوني، وقائمة تهم، وإمكانية الاطلاع على الأدلة المستعملة ضدهم. هؤلاء الأشخاص اعتقلوا في الغالب على ساحة المعركة أو سلموا للقوات الأميركية مقابل مكافآت مالية خصصت لمن يدلي بمعلومات تقود إلى القبض على أعضاء "القاعدة". السبب الأصلي لاعتقالهم هو كونهم يمثلون مصادر محتملة للمعلومات الاستخباراتية حول العدو؛ وقد كان بعضهم كذلك بالفعل، قبل التعذيب أو بعده. غير أن التهم التي تقرر على أساسها الاستمرار في حبسهم كانت في حالات كثيرة تفتقر إلى مسوغ قانوني معقول. والواقع أن كل هذا لا يستحق التكرار بعد تسع سنوات على بدء الفضيحة، وفي وقت لم يعد يبدو فيه أن تصحيحها ما يزال ممكناً، وذلك رغم وعود رئاسة أوباما وجهودها. غير أن ثمة شيئاً يمكن قوله حول هذا الوضع: ظاهرة ذات طبيعة شمولية على ما يبدو، تحاكي على نحو ذكي بدون شك، تدمير القيود القضائية في النظام النازي بواسطة السجن التعسفي في معسكرات الاعتقال وبواسطة أساليب كانت شائعة في ممارسات "الجيستابو"، وفي روسيا الستالينية من قبل بوليسها السري ومعسكرات الأعمال الشاقة. غير أنه في هذه الأخيرة، كان هناك نظام من الأحكام والعقوبات المعروفة، وهو أمر لا نظير له في جوانتانامو اليوم؛ غياب يُستغَلُّ عن قصد كوسيلة لترهيب المعتقلين. وعلاوة على ذلك، يعد جوانتانامو عاملاً في ما يمكن تسميته "شملنة" الثقافة السياسية الأميركية، التي تحدث عبر المنع الفعال (أو الشيطنة) لبعض المواقف السياسية التي تعتبر "منافية للوطنية"، وبالتالي غير مقبولة في الخطاب السياسي للأمة، بما في ذلك خطابات ونقاشات الكونجرس أحياناً. بيد أن هذا الأمر يرقى إلى تطوير نسخة أميركية من "اللغة المضللة". أي أنك تستطيع التحدث حول بعض الأشياء فقط بلغة مطهَّرة سياسياً ومزيفة. هذا بالإضافة إلى هيمنة الدعاية السياسية مدفوعة الأجر على السياسة الانتخابية، ما يعني بالتالي إقصاء المرشحين الذين يفتقرون للأموال التي يمتلكها منافسوهم. كل هذه الأمور تعززت بالحكم الذي أصدرته المحكمة العام الماضي في قضية "المواطنين المتحدين"، حيث تمت إعادة التأكيد على أن المال الذي يتم إنفاقه على الحملات السياسية يمثل شكلاً من أشكال حرية التعبير التي يكفلها الدستور، وبالتالي فإنه لا يوجد حد أو سقف بخصوص إنفاق الشركات أو المصالح الخاصة (على السياسيين). ولأنه من الصعوبة بمكان رؤية كيف يمكن رفع مثل هذه العقبة أمام ممارسة متساوية ومتكافئة لحرية التعبير في الانتخابات الأميركية، على اعتبار أن النظام الحالي لا رجعة فيه عملياً، يمكن وصف الجمهور الأميركي باعتباره "مسجوناً" سياسياً، لا أمل له بالطعن في الحكم. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"