في ديسمبر 2008، وبعد مخاض صعب وعسير، وقعت إدارة بوش الابن في أيامها الأخيرة مع حكومة المالكي اتفاقية أمنية تعرف بـ"سوفا" لتنظيم وضعية الجيش الأميركي في العراق، وقد تم وضع ثلاث مراحل بتواريخ محددة للانسحاب الأميركي من العراق. الأولى الانسحاب في يونيو الماضي من المدن، والثانية سحب جميع القوات العسكرية المقاتلة من العراق بنهاية أغسطس 2010. وقد تمت هاتان المرحلتان. والمرحلة الثالثة انسحاب جميع القوات الأميركية، بالكامل، من بلاد الرافدين مع نهاية عام 2011. ولا يزال هناك 47 ألف جندي أميركي في العراق. ولكن منذ مطلع العام الحالي برزت في الأفق تطورات جيو-استراتيجية ضاغطة ومتعددة الأبعاد، بعضها غير متوقع، دفعت لإعادة حسابات اتفاقية "سوفا"، ويمكن تأجيل الانسحاب العسكري من الجانب الأميركي وإبقاء بعض القوات لأسباب متعددة. ولكن حتى يتم ذلك يجب إعادة النظر في بنود الاتفاقية وعلى رأسها أن يتقدم العراق رسميّاً إلى الطرف الأميركي ويطلب بقاء بعض القوات لأسباب أمنية وسياسية ولمصلحة العراق العليا. وهذا ما يبدو أنه يتبلور اليوم. ومنذ البداية لم يتوقع كثير من الباحثين والمحللين الاستراتيجيين، ومنهم كاتب هذه السطور، أن ترسل أميركا مئات الآلاف من الجنود وتتكلف كل هذه المئات من مليارات الدولارات ويسقط حوالي 4451 عسكرياً أميركياً قتلى و30 ألف جريح، وتعاني مآزق أمنية واستراتيجية واقتصادية وسياسية، ثم ترحل وتسلم أمن واستقرار العراق، وأمن المنطقة، لخصومها وأعدائها لملء الفراغ وتهديد مصالحها وتعريض مصالح حلفائها للخطر. ولذلك شككنا منذ البداية في اتفاقية "سوفا"، وأذكر أنني في محاضرة في جامعة الكويت في يناير 2009 توقعت أن يعاد النظر في هذه الاتفاقية لأسباب عديدة أبرزها عدم تبلور الوفاق والتوافق السياسي، وهو ما حدث. فبعد أكثر من عام على الانتخابات يتفاقم المأزق السياسي والأمني في العراق، وكذلك بسبب عجز العراق عن حماية نفسه والحاجة إلى الوجود الأميركي لإبقاء القوى السياسية والعرقية ضمن إطار تعايش على رغم صعوبته ينبغي أن يبقى بعيداً عن الانفجار. وهناك الحاجة لحماية المصالح والشركات والمكاتب الأميركية، ناهيك عن توفير الحماية التي تحتاج لآلاف الجنود لتأمين أكبر سفارة في العالم. وقتها لم تكن الثورات العربية قد تفجرت وجرفت الكثير من المعطيات، ولم يكن دور القوى الإقليمية قد تعاظم، أو تدخلت بأصابعها وحلفائها في المنطقة. ولم يكن جيران العراق، وخاصة سوريا، في مثل ما يشهده الحال اليوم من أوضاع صعبة وانتفاضة وعقوبات وتضييق خناق. ولم يكن المأزق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في العراق قد وصل إلى هذا الطريق المسدود من انتفاضة وتظاهرات ومطالبة بإسقاط نظام المالكي بسبب المحاصصة وسوء الخدمات كالكهرباء والماء مع دخول فصل الصيف وارتفاع الحرارة إلى ما فوق الخمسين درجة. وقد وصل الوضع في العراق إلى طريق مسدود، وقد دخل على الخط مؤخراً رئيس القائمة "العراقية" علاوي بسبب الوضع العراقي الصعب وعدم تطبيق بنود الاتفاقية التي وقعتها القوى السياسية العراقية في إطار مبادرة برزاني، التي لم تنفذ منها نقطة واحدة، وخاصة أن الأمور أصبحت معطلة حاليّاً، وهناك المزيد من التراجع في الوضع الأمني والاقتصادي والخدمي، وفوق هذا أن "الأمور لم تعد مقبولة، فإما الخروج من الأزمة بالعودة إلى ما تم الاتفاق عليه في أربيل، أو إجراء انتخابات مبكرة لكي تحسم الأمور باتجاه الأغلبية والأقلية وفق السياقات المعهودة في الديمقراطيات بالعالم"، ولا شك أن هذا يعيد العراق إلى المربع الأول، ويعقد الأوضاع لتضاف إلى مخاطر الثورات العربية المندلعة. وفي فبراير، ثم في أبريل من هذا العام، أعلن وزير الدفاع الأميركي، ورئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، قبل أسبوعين من بغداد في زيارتهما مع المسؤولين الأميركيين بأن بلادهما لا تمانع التفاوض حول اتفاقية "سوفا" لإبقاء قوات أميركية في العراق بغرض التدريب والتأهيل للقوات العراقية ولسنوات طويلة إذا لم يكن إلى الأبد. وقد ذهب رئيس الأركان الأميركي إلى حد حث المسؤولين العراقيين على المسارعة بالطلب من الأميركيين إعادة التفاوض حول الاتفاقية لتتمكن واشنطن من إبقاء ما بين عشرة وعشرين ألف جندي أميركي، إذ من المفترض أن تبدأ بتفكيك القواعد والمواقع وشحن العربات والمعدات والبدء تدريجيّاً في سحب القوات الأميركية بداية الصيف القادم. والراهن أن مبدأ أوباما الذي يعتمد على استراتيجية التعددية وإشراك الحلفاء، وحتى ترك القيادة للآخرين ومنهم حلف شمال الأطلسي، وكذا تجاهل انتقائي في العديد من المناطق في العالم ومنها كما رأينا في ليبيا، لا يمكن أن يكون المرجعية في العراق ومنطقة الخليج بسبب الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، ولطمأنة الحلفاء وقد التقى مع اثنين من قادة المنطقة -سمو أمير قطر حمد بن خليفة وسمو ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد- مما يؤكد الأهمية الاستراتيجية ودور البلدين في الأمن الإقليمي والشأن الليبي بالتحديد، وكذلك أهمية التزام واشنطن بطمأنة حلفائها حول نواياها واستراتيجيتها في العراق والمنطقة، ومنع خصوم أميركا الإقليميين من ملء الفراغ بما قد يؤدي إلى تفاقم الخلل في توازن القوى. وفي المجمل، بسبب حراجة الشأن العراقي المحتقن، وللأسباب الجيواستراتيجية والأمنية في المنطقة، فقد أصبح بقاء القوات الأميركية مصلحة مشتركة للجميع على رغم وعود أوباما بالرحيل، وذلك للتصدي لجميع تلك التحديات ولاحتواء الاحتقان، ولمنع خصوم واشنطن من ملء الفراغ سواء أكان هؤلاء الخصوم من الدول أو حتى من اللاعبين من غير الدول.