عبر تاريخها، اتسمت العلاقة بين الولايات المتحدة وباكستان - التي كانت تمليها الحاجة دائماً - بأنها علاقة قلقة وغير مريحة. يرجع ذلك، وهو ما لم يمكن سراً، إلى أن واشنطن كانت تعتقد اعتقاداً جازماً، أن باكستان تمتلك مفاتيح الموقف في أفغانستان، وأنها على الرغم من كل مآخذها عليها، تمثل أهم حليف لها في الحرب ضد تنظيم "القاعدة". والخلافات الأخيرة بين الدولتين حول قضية عميل الاستخبارات الأميركية "ريموند ديفيس"، الذي قُبض عليه على خلفية قيامه بقتل اثنين من الباكستانيين في لاهور، يمكن وصفها بأنها لا تزيد عن كونها مجرد عقبة على طريق العلاقات الثنائية بين البلدين. ولاشك أن الحكم الذي أصدرته محكمة باكستانية بالإفراج عن "ديفيس" بعد دفع الدية الشرعية لعائلتي الرجلين القتيلين، يعبر عن الطريقة التي يدير بها البلدان أمورهما في العلن - على وجه الخصوص. ولا شك أن القيادة الباكستانية تحتاج - وبصورة ماسة- إلى الولايات المتحدة، التي ضخت مليارات الدولارات لتسليح الجيش الباكستاني الذي يحتاج إلى العديد من أنواع الأسلحة والمعدات المتطورة (من المعروف أن أميركا، تمنح حكومة باكستان في كل عام مليار دولار في صورة مساعدات للجيش ). من هنا، يمكن إدراك أن الجيش الباكستاني، من جانبه، كان على صواب تام عندما قال المتحدثون باسمه إنه بحاجة إلى الدعم الشعبي لمحاربة الإرهاب، وأنه لا يستطيع أبداً أن يتجاهل العواطف المحلية. ولا شك أن كل ما دار في قضية "ريموند ديفيس" منذ بدايتها، والطريقة التي تطورت بها، والتي انتهت إليها، قد أدى في مجمله إلى مفاقمة المشاعر المناوئة للولايات المتحدة في باكستان، وإلى اندلاع مظاهرات ضد الوجود الأميركي المستمر فيها. والمشاعر المناوئة لأميركا، ليست بالشيء الجديد في باكستان. فالهجمات التي تشنها الطائرات على المناطق القبلية المتاخمة لأفغانستان، ووجود القوات الأميركية في باكستان، كانا دائماً من الأسباب المؤدية لشعور الباكستانيين بالقلق، ذلك القلق الذي يرجع لعدم رغبة الباكستانيين في النظر إلى بلادهم على أنها دولة تابعة لأميركا وخاضعة لسيطرتها. وقد ازداد الرأي المناوئ للولايات المتحدة حدة في الشهور العديدة الأخيرة نتيجة لسببين: الأول: الهجمات بدون طيار التي أدت وفقا لأدق الإحصائيات إلى مصرع ما لا يقل عن 2000 مدني باكستاني جراء الهجمات التي تشنها تلك الطائرات، والتي يقول الأميركيون إن الغرض منها هو ضرب مقاتلي وقيادات حركة "طالبان"، التي تتخذ من المناطق الحدودية المتاخمة لباكستان ملاذات لها. وتشير الإحصائيات أيضاً إلى أن هناك 900 من المدنيين الباكستانيين الذين لا علاقة لهم على الإطلاق بحركة "طالبان"، ولا تنظيم "القاعدة" قد لقوا مصرعهم عام 2010 وحده، جراء هجمات تلك الطائرات التي تمثل سبباً دائماً للغضب المستمر لدى الشعب الباكستاني. وفي وسط هذا الجو المحتقن جاءت قضية "رايموند ديفيس" لصب المزيد من الزيت على النار. وليس بمقدور الجيش الباكستاني، على ضوء ذلك، تجاهل الغضب الشعبي ضد أميركا ويهمه بالتالي أن يراه الشعب وهو يفعل شيئاً من أجل تخفيف هذا الغضب. ولعل ذلك هو السياق الذي دفع قائد الجيش الجنرال إشفاق كياني إلى مطالبة الولايات المتحدة، بإنقاص عدد عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية العاملين في باكستان، وكذلك أعداد قوات العمليات الخاصة العاملة فيها، كذلك تقليص عدد الهجمات التي تتم بالطائرات من دون طيار إلى أقصى مدى ممكن لتلافي إلحاق المزيد من الخسائر بالمدنيين الأبرياء. على الرغم من كل ما كتب عن التوتر الذي تمر به العلاقات الأميركية الباكستانية في الوقت الراهن، فإنه ليس هناك أدنى شك في أن كل بلد ينظر إلى الآخر على أنه حليف لا يمكن الاستغناء عنه. ويرى كثيرون أن المطالب التي تقدم بها قائد الجيش الباكستاني للولايات المتحدة ليست سوى وسيلة للتنفيث عن الغضب الشعبي الذي تفاقم بعد قضية "ديفيس" وحتى لا يتم النظر إلى باكستان كما قلنا سابقاً على أنها مجرد أداة في يدي أميركا. وفي رأيي أنه بمجرد أن يخف هذا الغضب، ويمر بعض الوقت، فإن الأمور بينهما سوف تعود إلى الحالة الطبيعية، وليس من الغريب أيضاً في سياق ذلك أن يعود عملاء الاستخبارات المركزية الأميركية ورجال العمليات الخاصة مرة أخرى إلى باكستان بعد بعض الوقت وكأن شيئاً لم يكن. في غضون ذلك يواصل كبار المسؤولين الأميركيين والباكستانيين لقاءاتهما المنتظمة على الرغم من الشرخ المُدّعى في العلاقات بينهما. ففي الآونة الأخيرة التقى الجنرال كياني بالأدميرال مايك مولين رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، كما التقى الجنرال أحمد شوجا باشا رئيس الاستخبارات الباكستانية بمدير الاستخبارات المركزية الأميركية "ليون بانيتا" في العاصمة الأميركية واشنطن الأسبوع الماضي. وفي الأسبوع الحالي أجرى وزير الخارجية الباكستاني محادثات مع مسؤولي وزارة الخارجية الأميركيين في واشنطن. ويُشار أيضا إلى أنه قد قيل الكثير عن التصريحات الكثيرة التي تصدر من المسؤولين الأميركيين عن خيبة أملهم في الجهود التي تبذلها باكستان لمواجهة المتمردين. وعلى الرغم من أن تلك البيانات قد تعطى، في الظاهر، إيحاء بأنها نوع من التقريع لباكستان، إلا أنها في حقيقة أمرها ليس سوى نوع من التظاهر أمام الرأي العام. ففي أوقات معينة تزداد تلك البيانات حدة، حتى ليظن المرء أن العلاقات بين البلدين تمر بحالة كبيرة من التوتر، قبل أن يعود كل شيء مرة أخرى إلى طبيعته، بعد مرور بعض الوقت. من المعروف أن الذاكرة العامة غالباً ما تكون ضعيفة. وفي اعتقادي، بناء على ذلك، أنه لن يمر وقت طويل إلا وتكون قضية "ريموند ديفيس"، التي تثير كل هذا الصخب في الوقت الراهن في العلاقات بين البلدين، قد نُسيت. باكستان تعتبر حليفاً لا غنى عنه للولايات المتحدة... حليفاً يسهل طريق الخروج الأميركي من أفغانستان، ويعيد نوعاً من الاستقرار والحالة الطبيعية إلى هذا البلد الذي مزقته الحروب. إن أكبر تحدٍ يواجه أوباما في الوقت الراهن هو سحب جنوده من المستنقع الأفغاني في أسرع وقت ممكن .. والدولة الوحيدة في العالم التي تستطيع مساعدته في مهمته هي باكستان، ولا أحد غيرها.