عندما شن بوش حربه على العراق تحت حكم صدام حسين، متبعاً أسلوب "الصدمة والرعب"، توقف المعلقون السياسيون طويلاً عند ما بدا تأثيراً سحرياً للقوة الجوية في عصرنا الحالي، وذهب البعض إلى أن الضربات الجوية التي تنفذها الولايات المتحدة وحلفاؤها ستتولى، وعلى غرار ما حدث في حرب الخليج عام 1991 وحرب كوسوفو عام 1999، إنجاز الجزء الأعظم من المهمة المطلوبة من أجل نصر مبكر ومطلق. لكن الواقع أثبت خلاف ذلك. ومثلما يُظهر "مارتن فان كريفلد" في الكتاب الذي نعرض له هنا، فإن قيمة القوة الجوية تقلصت بشكل كبير منذ أوج استعمالها إبان الحرب العالمية الثانية، عندما أنهت طائرتان أميركيتان من طراز بي 29 الحرب العالمية بإلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناجازاكي. وكان ماكجورج بوندي قد لاحظ في عام 1988، بعد التجربة القاسية التي عاشها كمهندس لحرب فيتنام، أن "الضربة الجوية الجراحية" تستحق اسمها على اعتبار أن الجراحة دموية وفوضوية وغير نهائية. وهو رأي يتفق معه الكاتب الذي يُظهر في كتاب "عصر القوة الجوية" صعوبة الفوز بحرب معاصرة انطلاقاً من السماء. كريفلد يلفت إلى أن الحرب العالمية الثانية بدأت مع توجيه هرمان جورينج، قائد القوات الجوية الألمانية تحت حكم هتلر، لطياريه بضرب الأهداف العسكرية فقط، وانتهت فعلياً مع إلقاء الطائرة الحربية "إيولا جاي" لأكثر سلاح فتكاً في التاريخ على الهدف غير العسكري المتمثل في مدينة هيروشيما وقتل حوالي 75 ألف مدني بشكل فوري. ولا يعزو الكاتب الفضل في الانتصارات المبكرة التي حققتها القوات الجوية النازية إلى عدد الطائرات الألمانية أو جودتها، وإنما إلى قيادة عسكرية موحدة، وتخطيط جيد، ورغبة قوية في توسيع الرايخ الألماني. ويرى أن المحاولات الألمانية لغزو انجلترا إنما باءت بالفشل لأن معنويات البريطانيين كانت أقوى من أن تكسر تحت القصف المتواصل، ولأن القوات الجوية البريطانية أسقطت الكثير من الطائرات النازية لدرجة أن الألمان اضطروا لشن غاراتهم الجوية ليلاً، وهو ما يعني تقلص احتمال إصابة أهدافهم المحددة. وثمة لحظتان في الحرب العالمية الثانية كان يتوقع أن تثبتا أن القوة الجوية العسكرية لا تقهر، لكنهما أظهرتا محدوديتها. ففي وقت متأخر من الحرب، أشرف المخططون الحربيون الأميركيون على القصف الاستراتيجي المكثف لأهداف ألمانية مختارة لإرغام نظام هتلر على الاستسلام، لكن العديد من قاذفات القنابل الليلية أخطأت أهدافها، ورغم أن 350 ألف ألماني قتلوا، فإن هتلر وحكومته بقيا. وفي ربيع 1945، ومن أجل تلافي غزو بري لليابان من قبل الحلفاء يمكن أن يفضي إلى موت الملايين، أرسل الجنرال كرتيس ليماي قاذفات قنابل من طراز بي 29 فوق طوكيو و63 مدينة يابانية أخرى في أطول حملة قصف جوي حتى ذلك الوقت. لكن بحلول الصيف، أعلن ليماي أن قائمة الأهداف قد استنفدت بالكامل. وحينها كان الجزء الأعظم من صناعة الحرب اليابانية قد دُمر ونصف مليون شخص ربما قد قُتلوا، ومع ذلك لم تكن رغبة اليابانيين في القتال تُظهر أي مؤشرات على الضعف. ويمكن القول إن الحرب الباردة سرعت تراجع دور الطائرة الحربية، حتى قبل أن تفسح قاذفات القنابل المجال أمام الصواريخ الباليستية المحملة برؤوس نووية في الستينيات. وكما يقول كريفلد، فخلال الحرب الباردة التي دامت 45 عاماً، لم تقم طائرات حربية أميركية وسوفييتية بمقاتلة بعضها بعضاً بشكل مباشر كجزء من القوات الجوية للبلدين، وذلك لأن توازن الرعب النووي كان يفرض أن يقتصر الاستعمال الحقيقي للقوة الجوية على شن الحرب على بلدان تفتقر للسلاح الأفتك. غير أنه حتى في العديد من تلك الحروب، تبين أن القوة الجوية ليست حلاً ناجعاً دائماً. فخلال الحرب الكورية مثلاً، كان الجيش الأميركي، المجهز بقاذفات قنابل جديدة، قد أصاب بالشلل جل حركة النقل عبر السكك الحديدية في كوريا وجعل معظم مطاراتها العسكرية غير قابلة للاستعمال، لكن النتائج لم تكن واضحة. وهذا ما دفع الزعيم الصيني ماو للتشكيك في تأثير القوة الجوية على المعركة البرية، وهكذا لم تلعب الطائرات الحربية الصينية سوى دور صغير جداً في هجوم بلاده الكوري الناجح خلال عام 1950-1951. تشكيك مبالغ فيه ربما، لكن الإيمان الكبير للشعب الأميركي والطبقة السياسية الأميركية بإمكانيات القوة الجوية وقدرتها على تحقيق انتصارات سريعة، يمثل وهماً خطيراً، لاسيما عندما يضاف إليه توق الرؤساء للتخطيط لاشتباكات عسكرية تنتهي بسرعة وتسجل خسائر قليلة. والواقع أن بعض النجاحات شجعت الأميركيين على مواصلة الاعتقاد بأن قوة أميركا الجوية المثيرة للرعب، ستمكن الأميركيين من الفوز في حروب كبيرة بدون دفع ثمن باهظ. لكن، ومثلما أظهرت حرب العراق، فإنها ليست فعالة دائمة، والكلفة باهظة في جل الأحيان. محمد وقيف الكتاب: عصر القوة الجوية المؤلف: مارتن فان كريفلد الناشر: بابليك أفيرز تاريخ النشر: 2011