بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط المعسكر الشيوعي تعالت بعض الأصوات في الغرب مبشرة بنهاية التاريخ وانتصار الليبرالية الديمقراطية كنموذج عالمي مهيأ لاكتساح العالم وتحقيق النمو والرخاء للدول. لكن بعد مرور كل هذه السنوات على إطلاق الوعود الديمقراطية ومحاولات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الترويج لها ونشرها حول العالم، يأتي الكتاب الذي نعرضه هنا لبول كوليي، "الحروب والسلاح والانتخابات"، ليفند ادعاء مروجي الديمقراطية وليشرح كيف يمكن لهذا النظام الذي بات رديفاً للانتخابات لدى المسؤولين في الغرب، أن يتحول إلى أحد عوامل زعزعة الاستقرار في الدول الهشة التي لم تطور بعد مؤسسات مجتمعية قوية قادرة على احتضان الفكر الديمقراطي وترجمته عملياً إلى ازدهار اقتصادي واستقرار سياسي. وينطلق الكاتب لتوضيح رؤيته من عدة نماذج منتشرة حول العالم، مثل روسيا التي تبنت في عهد بوتين ديمقراطية الواجهة الحريصة على تنظيم انتخابات دورية، لكنها في الوقت نفسه تضيق الخناق على حرية الصحافة وتلاحق المعارضة، كما تركز السلطات في يد الكرملين على حساب المحافظات التي بات المسؤولون عنها يُعينون مباشرة من قبل بوتين نفسه بدل انتخابهم من قبل الشعب في انتكاسة واضحة للديمقراطية. والأمر لا يقتصر على روسيا، بل يمتد إلى الدول الفقيرة التي تعاني من فشلها في خلق بيئة ملائمة لانتعاش الديمقراطية واستتباب الأمن والاستقرار، رغم مظاهر ديمقراطية سطحية لا تنفذ إلى عمق المجتمع ولا تؤثر فيه. ويرجع الكاتب هذه المسرحية التي تنخرط فيها العديد من الدول، لاسيما في أفريقيا، إلى الغرب نفسه الذي تعامل مع الديمقراطية بانتهازية ففقد مصداقيته في الدفاع عنها، بل أسسها على مصالح اقتصادية واستراتيجية غالباً ما تقود إلى التغاضي عن الاستبداد في البلدان المعنية حفاظاً على مصالح غربية ضيقة. وبدلاً من التركيز على عناصر الديمقراطية الحقيقية؛ كحرية الصحافة، وتعزيز المجتمع المدني، وتكريس حكم القانون، وتثبيت آلية واضحة لفرز الأصوات وضمان الشفافية... يحصر الغرب اهتمامه في تنظيم انتخابات يسهل تزويرها، مختزلين الديمقراطية في ممارسات وطقوس لا تتجاوز الواجهة الأمامية. وفي الأخير تؤدي هذه الديمقراطية المصطنعة إلى تأجيج الصراعات وتغذية عدم الاستقرار. وحسب المؤلف، تقود الديمقراطية المنشغلة بالمظاهر على حساب الجوهر والمهتمة بعملية انتخابية ناقصة ومزورة في أغلب الأحيان إلى "زيادة العنف السياسي بدل تقليصه والحد منه". فبدون قواعد واضحة، وتقاليد ديمقراطية راسخة، وفي ظل غياب تام لنظام المراقبة وتوازن السلطات لحماية الأقليات، وتوزيع عادل للموارد، وإخضاع المسؤولين لحكم القانون، والمساءلة القضائية... تعجز الحكومات التي تسم نفسها بالديمقراطية عن منع الانتفاضات الشعبية، بسبب افتقادها المصداقية والشرعية، وهو ما نراه حالياً في بعض البلدان العربية، لاسيما بعد أن تحولت مسألة تداول السلطة إلى مجرد صراع سياسي وانتخابي يسعى المنتصر من خلاله إلى إدامة سلطته وإطالتها بدل خدمة الصالح العام، فيما يتم إقصاء المعارضة، والتنكيل بها أحياناً. ومع أن الأطراف المتصارعة في بلد ما قد تلجأ إلى تدبير اختلافها سياسياً عبر القنوات الانتخابية، فإن الصراع يعاود الظهور مجدداً ما أن تنتهي الانتخابات ليرفض المنهزم النتائج، فيما يلجأ الطرف المنتصر الذي استخدم الرشاوى والابتزاز إلى تكريس حكامة سيئة لأن ما يهم في النهاية هو الاستفادة من السلطة. ومن العوامل الأخرى التي يوردها الكاتب كعقبات أمام إرساء الديمقراطية الحقيقية في البلدان النامية، الانحياز إلى الهويات الإثنية المختلفة في الدول المتعددة عرقياً، وهو ما يعفي القادة من المساءلة والكفاءة، لأن ما يهم الناخب في مثل هذه الحالات هو الانتماء العرقي وليس كفاءة المسؤولين. ويلفت الكاتب النظر إلى أنه في الحالات التي تغلب فيها السياسات المستندة إلى الهوية على السياسات الموحدة لأبناء الوطن، لا يجدي النظر إلى المشاركة الكثيفة للناخبين، والتعامل معها على أنها إنجاز؛ لأنها في المحصلة النهائية ليست أكثر من تعبير عن حرية مكبوتة لا تعني بالضرورة إفراز حكومة جيدة، أو ظهور كفاءات وطنية قادرة على إدارة الشأن العام. لذا يرى المؤلف أنه لكي تنتعش الديمقراطية في البلدان النامية يتعين عليها أولاً "أن تقوض تدريجياً الهويات الإثنية وتستبدلها بهوية وطنية". ومع أن الموارد الاقتصادية تساعد أحياناً في دعم الديمقراطية، فإنه في الدول التي تمزقها الاختلافات العرقية تصبح تلك الموارد عاملاً مؤججاً للصراع وعنصراً مشجعاً على الاستئثار بالسلطة. زهير الكساب الكتاب: الحروب والسلاح والانتخابات المؤلف: بول كوليي الناشر: هاربر كولينز تاريخ النشر: 2011