اشتهر المؤرخ البريطاني لورد آكتون الذي عاش في القرن التاسع عشر بقوله إن السلطة تُفسد والسلطة المطلقة تُفسد بشكل مطلق. وفي هذا الوقت الذي مازال فيه الغليان الثوري المتواصل في مصر يتخلص من فلول النظام السابق ويقبض على شخصياته الرئيسية، فإن هذا القول المأثور هو بمثابة تحذير للحكام السلطويين. ومن بين كل شخصيات النظام السابق الرئيسية والمقربين منه ومموليه ومشرعيه، يبرز على نحو لافت شخص واحد كان لقاؤه بالسلطة فجائياً بقدر ما كان مفسداً. فمبارك الذي كان بشهادة الكثيرين شخصاً متواضعاً، وجد نفسه في السلطة بمحض الصدفة، لكن بدلاً من أن يستعملها على نحو حكيم لخدمة الشعب، ترك نفسه يقع في فخ تأثيرها غير السليم. وفي السادس من أكتوبر 1981، اغتيل السادات بينما كان هو ونائبه مبارك وقادة الجيش والمؤسسة السياسية يشاهدون استعراضاً عسكرياً في ذكرى حرب السادس من أكتوبر 1973. وبعد أسبوع وجد مبارك نفسه رئيساً لمصر. كان مختلفاً عن سلفيه، السادات وعبد الناصر، إذ كان يفتقر إلى ما كانا يتمتعان به من كاريزما. ورغم ما عرف عنه من بطء في اتخاذ القرارات، فإنه كان سريعاً في الدفع بسياسات سلفه الاقتصادية (الانفتاح) لجعل مصر نموذجاً للاقتصاد الليبرالي الجديد كما روج له حينئذ كل من ريجان وتاتشر. ثم سرعان ما بدأ مبارك يُظهر مؤشرات التأثر بالسلطة، ولم يف بما وعد به من أنه سيحد عدد الولايات الرئاسية في اثنتين، بل راح يُحكم قبضته على السلطة لخمس ولايات، ويعبد الطريق لتوريث الحكم لابنه. واقتضت ولاياته الخمس في السلطة إفساد العملية السياسية لتزوير الانتخابات، وإسكات المعارضة والمنتقدين، وإدخال تعديلات دستورية لجعل قبضته الطويلة على السلطة غير محدودة وبدون منازع. ورغم تأكيداته النافية، فإن مبارك أظهر لامبالاة لافتة بمشاعر الشعب المصري الذي كانت أغلبيته غاضبة من مواقفه وسياساته، خاصة عندما قامت إسرائيل بغزو لبنان عام 1982، وبعلاقاته الوثيقة مع الإسرائيليين في وقت كان الشعب المصري مازال رافضاً لـ"التطبيع". كما قام بتسهيل الغزو الأميركي للعراق عام 2003، والحرب الإسرائيلية على غزة عام 2009، مُظهرا ازدراءً تاماً بشعور الغضب الذي كان ينتاب المصريين. كما أظهر لامبالاة مماثلة تجاه محنة الفقراء (علماً بأن 40 في المئة من المصريين يعيشون تحت خط الفقر) الذين كانوا أكثر من عانوا من الاقتصاد الليبرالي الجديد. وبينما سحبت الدولة معوناتها، وأدت إعادة الهيكلة التي أوصى بها صندوق النقد الدولي، وبرامج الخصخصة، إلى زيادة أعداد العاطلين عن العمل، سُمح لرجال الأعمال المتنفذين بشراء ممتلكات تجارية عامة ومتاجر ومصانع مقابل جزء يسير من قيمتها السوقية. وبينما واصلت كلفة العيش ارتفاعها، انخفضت القدرة الشرائية للمصري العادي؛ هذا في حين تدهورت الرعاية الصحية والتعليم. واستعمل مبارك نفوذه السياسي لتحقيق مصالح شخصية، كما حدث مثلاً عندما اصطحب معه ابنه البكر علاء خلال زيارات رسمية للخارج، مسهلًا بالتالي تعاملات نجله التجارية. وانخرط في ممارسات مماثلة عندما عين ابنه الآخر جمال في "الحزب الوطني الديمقراطي" الحاكم ، وأشرف على صعوده إلى السلطة، ثم قام بتمرير التعديلات الدستورية التي تتيح انتقال السلطة منه إلى جمال. وفي هذه الأثناء، أعلن محققو النائب العام الذين يحققون في ثروة عائلة مبارك الأسبوع الماضي أنهم أحصوا 40 منزلاً كبيراً وفيلا فاخرة لعائلة مبارك في مصر، إضافة إلى حساب في بنك مصري بقيمة 147 مليون دولار استعمله الرئيس السابق، إضافة إلى 140 مليون دولار جنيه مصري في حساب باسم علاء، وآخر بمبلغ 100 مليون جنيه مصري باسم جمال. مبارك الذي يوجد رهن الاعتقال في مستشفى عسكري، يواجه تهماً جنائية تشمل الكسب بوسائل غير مشروعة، وسوء استعمال السلطة من أجل الاغتناء الشخصي، والتهمة الأخطر المتمثلة في إصدار أوامر، أو عدم القيام بأي شيء، لوقف قتل أكثر من 400 متظاهر سلمي. وإذا كان الرئيس السابق قادراً على المثول أمام المحكمة من أجل هذه التهم الجنائية، فقد يواجه حكم السجن المؤبد أو حتى الإعدام. غير أنه عندما يستوعب المنعطف الذي اتخذته الأحداث بالنسبة له ولعائلته، والنهاية الدراماتيكية لمرحلته، فإن الصدمة قد تكون أكبر مما يستطيع تحمله. الأشخاص الذين عملوا عن قرب مع مبارك يقولون إنه كان منقطعاً ومنعزلاً عن العالم من حوله على نحو متزايد، وبات يعتمد بشكل متزايد على التطمينات الكاذبة لمساعديه بأن كل شيء تحت السيطرة، إذ يقال إن شخصيات رفيعة في النظام، مثل صفوت الشريف الذي شغل منصب وزير الإعلام لفترة طويلة؛ ومدير مكتب الرئيس زكريا عزمي، كانا يحميانه من الأخبار السيئة، بل كانا يكذبان عليه أحياناً. وقد ظهر هذا الانعزال عن الواقع الأيام الثورية الثمانية عشر التي هزت مصر وأطاحت بالنظام، وكان سلوك مبارك الذي لم يستطع فهم جسامة وخطورة ما كان يحدث، شبيهاً بسلوك شخصية شكسبيرية تراجيدية. فمثل ماكبيث، كان مبارك معزولًا ووحيداً، ومثل ماكبيث عندما تخلى عنه جيشه، بدأ كل شيء ينهار من حوله.