هل استقالت الولايات المتحدة من الدور الذي عهدت به إلى نفسها والذي مارسته على مدى عقود طويلة، شرطياً للعالم وعلى العالم؟. في الخامس والعشرين من شهر فبراير الماضي، ألقى وزير الدفاع الأميركي خطاباً وداعياً في القاعدة العسكرية الأميركية (وست بوينت)، قال فيه: "إن أي وزير أميركي للدفاع يقدم في المستقبل نصيحة إلى الرئيس الأميركي لإرسال قوات أميركية إلى آسيا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا يتحتم إجراء فحص لقواه العقلية". غير أن جيتس هو نفسه الذي نصح الرئيس السابق جورج بوش باجتياح العراق في عام 2003. وهو نفسه الذي نصح باحتلال أفغانستان في عام 2001 . ثم إنه هو نفسه الذي نصح الرئيس الحالي بزيادة القوات الأميركية في أفغانستان حتى وصل عددها الآن إلى مائة ألف جندي. يبدو أن وزير الدفاع الأميركي تعلّم الدرس، ولكنه تعلّم متأخراً. ويبدو أن أوباما قبِل النصيحة وسارع إلى العمل بها. ولذلك تراجع عن المساهمة العسكرية المباشرة في العمليات التي يقوم بها حلف شمال الأطلسي في ليبيا ضد قوات القذافي. لم يعرف التاريخ الأميركي المعاصر رئيساً أكثر جرأة من الرئيس الجنرال دوايت أيزنهاور في رفض التدخل العسكري. فرغم أنه وصل إلى البيت الأبيض على سجادة الانتصارات، التي حققها في أوروبا ضد القوات النازية الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أنه رفض مرتين على الأقل التدخل العسكري في آسيا وأفريقيا. فأثناء المرحلة الأولى من الحرب في فيتنام، والتي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي، منيت فرنسا بهزيمة عسكرية في ديان بيان فو. وناشدت الولايات المتحدة التدخل لإنقاذها. ولكن أيزنهاور، وكان رئيساً للولايات المتحدة، رفض الاستجابة للتدخل. وأبلغ مجلس الأمن القومي الأميركي في اجتماع طارئ عقده لبحث هذا الأمر في يناير 1954: "إنني لا أستطيع أن أتصور تورط الولايات المتحدة بإرسال قوات إلى جنوب شرق آسيا. إنني أعارض هذا الأمر بشدة. ولا يمكن أن أتصور وجود قوات أميركية في الهند الصينية (فيتنام)". ولكن ما لم يفعله أيزنهاور، فعله فيما بعد الرئيس ليندون جونسون الذي أغرق الولايات المتحدة لسنوات طويلة في الوحول الفيتنامية، عندما أرسل في عام 1965 ما مجموعه نصف مليون جندي أميركي إلى فيتنام... ورغم ذلك خسرت الولايات المتحدة الحرب وخرجت منها مدحورة بعد أن خسرت عشرات الآلاف من الضحايا. أما المرة الثانية التي رفض فيها الرئيس الجنرال أيزنهاور التدخل العسكري ، فكانت في عام 1956، عندما غزت قوات بريطانية – فرنسية – إسرائيلية مشتركة جمهورية مصر العربية رداً على قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. يومها لم يقتصر موقف أيزنهاور على رفض المشاركة العسكرية، بل رفع الصوت ضدها. وكان لموقفه أثر مباشر على فشل الغزو في تحقيق أي انتصار سياسي. غير أن الرئيس جورج بوش استجاب لدعوات التدخل العسكري أولاً في العراق، ثم في أفغانستان. ولو لم يسقط في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها الرئيس الحالي باراك أوباما، لربما ورّط بلاده في عمل عسكري آخر ضد إيران. ويعود لوزير دفاعه نفسه بعض الفضل في ذلك. أما "الفضل" الأول فيعود إلى مجموعة "المحافظين الجدد" الذين سيطروا على عقل الرئيس بوش وعلى إدارته طوال حكمه الذي استمر ثماني سنوات. ولقد سبق الرئيس بوش في التدخل العسكري في الشرق الأوسط والده جورج بوش الأب، الذي أرسل 500 ألف جندي إلى المنطقة في عام 1991 لإخراج الرئيس العراقي السابق صدام حسين وقواته من الكويت بعد اجتياحها ظلماً وعدواناً. لم تأخذ كل الأعمال العسكرية الأميركية في العالم طابع الغزو والاجتياح. فالرئيس رونالد ريجان قصف جواً المقر الرئاسي لمعمر القذافي في مدنية طرابلس في عام 1986، رداً على ما اعتبره في حينه أعمالاً إرهابية قام بها الزعيم الليبي. كما أن كلينتون قصف يوغسلافيا السابقة وعاصمتها بلغراد، (تحت مظلة حلف شمال الأطلسي) لحملها على وقف المجازر في كوسوفا والانسحاب منها. ومارست الولايات المتحدة دور الشرطي العالمي من خلال سلسلة الانقلابات التي خططت لها، وموّلتها، والتي أطاحت بأنظمة معارضة لها في أميركا الجنوبية والوسطى، وكذلك في أفريقيا. وإذا كانت الولايات المتحدة قد حققت من رواء ذلك مكاسب آنية، إلا أنها خسرت صدقيتها التي يحاول الآن أوباما استعادتها على غرار ما فعله أيزنهاور وقبله ويلسون الذي أرسى في مؤتمر فرساي 1919 مبادئ حق تقرير المصير للشعوب المغلوبة على أمرها. والسؤال الآن هل يشكل انكفاء أوباما عن المشاركة العسكرية في الصراع في ليبيا مؤشراً على التخلي عن دور الشرطي العالمي؟.. وماذا يعني ذلك بالنسبة لمستقبل حلف شمال الأطلسي ولوظيفته السياسية – العسكرية ؟ وماذا يعني بالنسبة للعلاقات الأميركية – الأوروبية، علماً بأن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ حتى الآن بحوالي 80 ألف جندي في قواعد عسكرية داخل الدول الأوروبية رغم مرور أكثر من نصف قرن على انتهاء الحرب العالمية الثانية، ورغم انتهاء أكثر من عقدين من الزمن على انتهاء الحرب الباردة؟ لقد جرّت الولايات المتحدة الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الأطلسي إلى أفغانستان على كره منها. ولكن هذه الدول الأوروبية (فرنسا – بريطانيا) لم تتمكن من جرّ الولايات المتحدة إلى ليبيا.. كما سبق لها أن جرّتها إلى البلقان. ومن خلال ذلك يبدو أن دور الشرطي العالمي الذي مارسته الولايات المتحدة طويلاً، لا يزال مطلوباً أوروبياً، ولكنه لم يعد مقبولاً أميركياً.