تسيطر النظرة السلبية على التغير الديموغرافي الذي تشهده حالياً العديد من المجتمعات البشرية، والمتمثل في زيادة متوسط أعمار أفراد الجنس البشري، ضمن الظاهرة المعروفة بتشيخ المجتمعات. حيث يرى الكثيرون أن هذا التغير، والمتمركز حول زيادة نسبة من تخطوا العقد السادس من العمر، سوف تنتج عنه تبعات اقتصادية سلبية، من خلال ازدياد تكاليف الرعاية الصحية التي سيحتاجها هؤلاء، وغيرها من مصاريف الرعاية الاجتماعية والمالية، دون مساهمة مماثلة في الناتج الاقتصادي القومي، وبالتحديد ريع الضرائب في الدول التي تقدم لمواطنيها رعاية طبية من خلال نظام صحي مجاني يعتمد في تمويله على أموال دافعي الضرائب. فرغم أن الشيخوخة من المنظور الطبي، ليست مرضاً في حد ذاتها، بل مجرد مرحلة بيولوجية في تطور الكائن الحي، فإن التغيرات المصاحبة لها تترافق مع ازدياد في معدلات الإصابة ببعض الأمراض. أحد الأمراض التي تظهر هذه الحقيقة، هو العته أو الخرف (Dementia)، والذي يمكن أن يصيب الإنسان في مرحلة الشباب أو في متوسط العمر، ولأسباب مختلفة ومتعددة ومتنوعة، إلا أنه يرتبط بشكل وثيق بالتقدم في العمر وبالشيخوخة، حيث تزداد معدلات الإصابة بشكل واضح بين طائفة المسنين، مقارنة بالطوائف العمرية الأخرى. وتظهر الدراسات والإحصائيات الطبية وجود أكثر من أربعة وعشرين مليون شخص مصابين بعته أو خرف الشيخوخة حول العالم، مع التوقع بأن يتضاعف هذا العدد كل عشرين عاماً، ليصل إلى واحد وثمانين مليون مصاب بحلول عام 2040. هذه التوقعات بنيت على الزيادة السنوية الحالية في انتشار معدلات الإصابة، والبالغة قرابة الخمسة ملايين إصابة سنوياً، أو إصابة جديدة كل سبع ثوانِ. ويمكن إدراك الثمن الاقتصادي العالمي لهذا المرض من خلال وقعه على بريطانيا مثلاً، حيث تشير التقديرات إلى أن عته الشيخوخة يكلف الاقتصاد البريطاني حالياً أكثر من 17 مليار جنيه استرليني، مع التوقع أن تضع الزيادة في عدد الحالات خلال العقود القليلة القادمة، عبئاً إضافياً يقدر بعشرات المليارات من الجنيهات سنوياً. ويتطابق هذا الوضع مع عدد من الأمراض، ضمن ما يعرف بطائفة الأمراض المرتبطة بالسن (aging-associated diseases)، مثل الأمراض السرطانية، وأمراض القلب والشرايين، والسكري من النوع الثاني، وارتفاع ضغط الدم، والتهابات المفاصل، وهشاشة العظام، وقتامة عدسة العين، ومرض الزهايمر، وغيرها، وهو ما يجعل من السهل إدراك مصدر نظرة الكثيرين السلبية للتكلفة الاقتصادية الناتجة عن ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية التي تحملها في طياتها ظاهرة تشيخ المجتمعات. لكن هل من المعقول تقييم أهمية شريحة رئيسية من شرائح المجتمع، بالاعتماد فقط على تكلفة احتياجاتها من عقاقير وأدوية ومن مصاريف رعاية طبية، أو عبر حجم ما تقدمه لخزائن الدول من ضرائب؟ إجابة هذا السؤال في رأي البعض، تتمثل في ضرورة الأخذ في الاعتبار بجوانب المساهمة المختلفة التي يقدمها هؤلاء عند تقييم أهمية شريحة المسنين داخل أي مجتمع. أحد جوانب هذه المساهمة التي لابد أن توضع في الاعتبار، هو جانب العمل التطوعي الذي يقوم به هؤلاء -وخصوصاً في المجتمعات الأوروبية والغربية- حيث يشكل المسنون الجزء الأكبر من المتطوعين في مختلف المجالات، وهو العمل الذي ربما لا يتقاضون عنه أجراً، إلا أنه من الممكن حساب عائده الاقتصادي، وخصمه من فاتورة تكلفة رعايته الصحية. وإذا ما انتقلنا لمحيط الأسرة، فسنجد أن كبار السن داخل العائلة مثل الجد والجدة -وخصوصاً في المجتمعات العربية والشرقية- يشكلون أهمية فائقة في رعاية الأطفال والأحفاد، ليس فقط كجلساء لهم في أوقات عمل الأبوين، بل كجزء من البناء النفسي للطفل. حيث يتزايد إدراك علماء النفس والاجتماع يوماً بعد يوم، لأهمية الجد والجدة في تنشئة الطفل على الصعيد الاجتماعي والعاطفي، وخصوصاً أنهم كثيراً ما يغدقون على أحفادهم فيضاً من الحب والمشاعر قد يعجز أحياناً حتى الأبوين عن مضاهاته. أضف إلى ذلك، أنهم كثيراً ما يقدمون النصح والإرشاد للأبوين، في أساسيات التربية السليمة، وخصوصاً لمن كان حديث الزواج منهم وقليل الخبرة في تربية الأطفال. هذا التفاعل الاجتماعي، والاحتضان العاطفي، والإرشاد المبني على الخبرة، يرى الكثيرون أنه يشكل أهمية فائقة في تحقيق وضمان الصحة الاجتماعية للأسرة، وللمجتمع برمته. ويعتقد هؤلاء، أن تراجع هذا الدور -وخصوصاً في المجتمعات الغربية- يعتبر أحد الأسباب الرئيسية خلف العديد من الأمراض المجتمعية التي تنتشر بين شعوب تلك الدول، مثل العنف، والجريمة، وإدمان المخدرات والكحوليات، بالإضافة إلى بعض الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والانتحار. أما بالنسبة للمسنين أنفسهم، ورغم ارتباط هذه المرحلة من عمرهم بازدياد معدلات الأمراض العضوية سابقة الذكر، فإن الدراسات الطبية تظهر تمتعهم بصحة نفسية أفضل من بقية الطوائف العمرية، حيث تنخفض لديهم أعراض القلق والتوتر المزمن، وتتراجع حالات اضطرابات المزاج والشعور بالاكتئاب. فعلى ما يبدو أنه بدخول الإنسان هذه المرحلة من العمر، يتعمق لديه فهم لطبيعة رحلة الحياة، ويتزايد إدراكه للجوانب المهمة وغير المهمة في هذه الرحلة، مما يدفعه لإعادة ترتيب أولوياته، ويدخل على نفسه شعوراً بالرضا والسكون والطمأنينة، وهو شعور لا يمكن تقييمه باستخدام الأرقام المالية، أو من خلال حسابات التكلفة الاقتصادية. د. أكمل عبد الحكيم