تابعتُ ما نشرته الصحف حول الندوة السنوية الثالثة للعلوم الاجتماعية بجامعة قطر تحت عنوان "المجتمع المدني في البلدان العربية". ونظراً للأحداث المتلاحقة في العالم العربي لم أتمكن من نشر هذا المقال. لقد تنوعت الآراء في الندوة حول مفهوم المجتمع المدني، وتناولت مواضيع مثل: دور المجتمع المدني في حركة النهضة خلال القرن التاسع عشر في إحياء الثقافة وبناء قوى التغيير. ودور القبيلة مقابل المجتمع المدني وتجزئتها للولاءات التي تحول دون تبني مفهوم المواطنة وما يستتبعه من قيم المساواة في الحقوق والواجبات والمسؤولية الاجتماعية التي تعتمد على وحدات أكبر من القبيلة. المجتمع المدني من أهم فواعل التغيير السياسي والاجتماعي. ضرورة تغيير التشريعات في دول مجلس التعاون لتوفير الدعم الفني والمادي والشراكة مع الجمعيات الأهلية لتنمية المجتمع. وقد ذكرنا في مقال سابق أن مفهوم المجتمع المدني مازال ملتبساً جداً في المخيال السياسي والاجتماعي العربي. كما أن هناك صعوبات لدراسة المجتمع المدني في الوطن العربي؛ مثل: 1- لا توجد نظرية موضع اتفاق بين الباحثين. 2- اختلاف المفهوم باختلاف الباحثين أو الكتاب. 3- الطابع الأيديولوجي لاستخدامات مفهوم المجتمع المدني. 4- رفض بعض الباحثين التسليم بوجود مجتمع مدني مستقل أصلاً في معظم الأقطار العربية. 5- مشكلات يثيرها استمرار القطاع التقليدي والتأثيرات الواسعة للتقاليد العشائرية والدينية على البنية الاجتماعية (د. عبدالغفار القصبي: المجتمع المدني، معهد البحرين للتنمية السياسية، 2008 ). لقد واجهت عملية التحول المدني في الوطن العربي تحديات عدة تمثلت في الإغراق في التخويف من هذا التحول كونه غربي النشأة، وأنه مصدر تهديد للشخصية أو الحياة الثقافية والاجتماعية السائدة في الأقطار العربية، حيث كان التراكم التاريخي من التوجهات (الاشتراكية أو الشيوعية) في مواجهة البرجوازية بارزاً لدى الحديث حول هذه القضية. لذلك تم التوجس من فكرة التحول المدني، وتم ربط ذلك بالخروج على مألوف الموروث الذي ساد العالم العربي، والذي أصبح مجرد التفكير في مناقشة (المجتمع المدني) كقيمة اجتماعية وسياسية، خروجاً على تقاليد المجتمع وتطاولاً على قيم الدين. ولأن ظروف نشأة المجتمع المدني -ضمن فترة النهضة الأوروبية- قد تزامنت مع الثورات المناهضة للاستبداد، وحرية الفكر وانتشار الفنون والثقافة، فإن النظرة العربية "المتوجسة"، خصوصاً لدى المحافظين المسيطرين على القرار السياسي والقيمي، قد تفوقت على النظرة المتفائلة القائلة بوجوب قبول ذلك التحول. وذهب البعض إلى أن الدولة العربية ما زالت في طور النشأة، ولديها "أفضليات" أو استحقاقات لإنشاء البنى التحتية أو التمكين الأمني والعسكري، لذلك فإنها غير "متفرغة" لتحديث قوانينها التي تتعارض مع التحول المدني. ناهيك عن أن المجتمع المدني -كمفهوم حضاري- يتطلب إنشاء الأحزاب والجمعيات التي تنظر لها الدول المتحفظة على أنها مؤسسات لا تناسب المرحلة، وقد تهدد قيم المجتمع ونظام الدولة! وكانت أولى التهم التي وجهت للمجتمع المدني -في الوطن العربي - أن هذا المجتمع يقابل الدين في المفهوم السائد، وأن كل "مدني" يشير إلى ما ليس دينياً (كنسياً)! أو يقابله ما ليس قبلياً أو عشائرياً أو عائلياً، أو يقابله ما ليس متعلقاً بالدولة. ورغم أن العديد من الجمعيات الدينية في الوطن العربي تقوم بأدوار المجتمع المدني وتشكل أحزاباً سياسية أو عشائرية عائلية، ويكون هدفها جزءاً من أهداف المجتمع المدني، وإن ابتعدت عن التنظير أو الممارسة السياسية. كما أن هذه الجمعيات لم تحاول الخروج على (خط الدولة)، بل حافظت على علاقات مع الدولة، ما أضفى عليها شرعية ومصداقية ضمن إطار مفهوم المجتمع. كما كانت لها نجاحات عديدة في مساعدة المحتاجين والمنكوبين، وبناء المدارس والمساجد وإغاثة الملهوفين. لذلك اكتسبت احترام وتقدير المجتمع واعتبرها البعض مؤدية لدور المجتمع المدني. ومن التحديات المهمة التي تُصنّف كعقبات أمام تطور المجتمع المدني وفعاليته، القوانين والأعراف الاجتماعية التي تعيق تسجيل الجمعيات والمؤسسات المدنية وتقييد نشاطاتها. كما تحظر القوانين تعاونها مع الجمعيات المماثلة في الخارج، وحتى الهيئات الدولية التي تقوم بذات الوظائف. ولقد تطور مفهوم المجتمع المدني من الشراكة الاجتماعية وتطوير الخدمات والمطالبة بتحديث القوانين المتعارضة مع أهداف المجتمع المدني، إلى المشاركة في قضايا السلم العالمي والحيلولة دون اندلاع نزاعات إقليمية، وكانت ثمة "الشراكة العالمية للحؤول دون النزاع المسلح"، وذلك استجابة لطلب من أمين عام الأمم المتحدة، وهي برنامج مدته ثلاث سنوات للحديث والنقاش والبناء الشبكي، وقد تكلل في عام 2005 بانعقاد المؤتمر الدولي للمجتمع المدني حول الحؤول دون اشتعال النزاعات المسلحة. ومن إنجازات هذه العملية وثيقة "بناء الشعوب للسلام، أجندة عمل عالمية لمنع اندلاع النزاعات العنيفة المسلحة"، وقد تم تبنيها من قبل 900 مشارك يمثلون 15 برنامجاً إقليمياً وشبكة إقليمية من منظمات المجتمع المدني. وقامت بعض الدول العربية بـ"تفصيل" أنواع من المؤسسات الرسمية أسمتها منظمات المجتمع المدني، ولم تكن تلك المؤسسات إلا واجهة رسمية اختلفت أهدافها وممارساتها عن أهداف وممارسات منظمات المجتمع المدني. وأخيراً، فإن مفهوم المجتمع المدني يحتاج إلى الكثير من البحث والتفسير، وهو لا يعني بالضرورة تحجيم دور الدولة أو التسبب في فوضى مجتمعية أوإهمال القيم الدينية، بل يُعنى أساساً بتشجيع العمل التطوعي وتلاحم الفرد والمجتمع وتعميق انتماء المواطن لمجتمعه الأوسع. كما أن المؤسسات المدنية لا تنتعش إلا في مناخ مجتمعات الديمقراطية والتعددية وتداول السلطة.