من أهم إنجازات ثورة 25 يناير المصرية أنها بضربة واحدة أسقطت الفرعونية في مصر إلى الأبد! وهكذا يمكن القول إن النظام السابق هو الفرعون الأخير في سلسلة الفراعنة أو الحكام المصريين الذين تمتعوا بالسلطة السياسية المطلقة بلا رقيب ولا حسيب! وقد تسرب التراث الفرعونى -والذي كان يعتبر الفرعون إلهاً- إلى الثقافة السياسية المصرية وخصوصاً بعد نهاية عصر الليبرالية (1923- 1952)، وذلك بقيام ثورة 23 يوليو. فهذه الثورة قامت بعد ما خاضت النخبة الوطنية المصرية في نقاشات شتى حول تدهور حالة النظام الملكي الدستوري القديم، وانهيار النظام الحزبي، نتيجة تدخل سلطة الاحتلال الإنجليزي ومؤامرات الملك فاروق، الذي عادى حزب "الوفد" الذي كان حزب الأغلبية الشعبية. وفي خضم نقاشات النخبة السياسية والفكرية المصرية حول ضرورة تغيير النظام القديم وتشييد نظام سياسي جديد، أثيرت فكرة المستبد العادل! ويبدو أن هذه الفكرة النظرية التي تداولها بعض المثقفين المصريين قبل ثورة يوليو 1952، وجدت تطبيقاً لها في شخص الرئيس عبد الناصر الذي استطاع بعد صراعه مع محمد نجيب أن يكتسب شعبية جماهيرية جارفة (كاريزما)، وأعطاه الشعب تفويضاً كاملاً لكي يقود مسيرة التنمية تحت شعار العدالة الاجتماعية، وعلى حساب الحرية السياسية بالمعنى الليبرالي للكلمة. وجاء السادات الذي أسر لبعض مخالطيه أنه سيكون آخر الفراعنة! غير أن الممارسة السياسية لسلفه مبارك أثبتت أنه بحكم ممارسته للسلطة المطلقة أراد مواصلة التراث الفرعوني في الاستبداد المطلق، مما أدى إلى تهميش كافة القوى السياسية المعارضة، حتى يخلو له الجو هو وأركان حكمه في ممارسة الفساد السياسي والمالي، بصورة لم يعرفها التاريخ المصري في أشد عصوره ظلاماً! غير أن ثورة 25 يناير استطاعت إسقاط النظام السلطوي، والتمهيد لقيام نظام سياسي جديد لتحقيق الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. لكن تبين أنه أهم من قيام الثورة في ذاتها، اليوم التالي للثورة، ونقصد به تحديداً وضع خريطة طريق للتحول من النظام الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي. وبناءً على تفاعلات سياسية معقدة ومتعددة، تم وضع خطة الطريق السياسية بعد تعطيل العمل بالدستور، وتعديل بعض مواده والاستفتاء عليها، وإصدار إعلان دستوري بحكم الفترة الانتقالية. وقد جاء في خطة الطريق أنه ستجري في سبتمبر المقبل انتخابات نيابية لمجلس الشعب الذي سيكلف بتشكيل لجنة تأسيسية لوضع دستور جديد، يلي ذلك إجراء انتخابات لرئاسة الجمهورية. وهنا نصل إلى لب المشكلة. لقد وضعت خطة الطريق شروطاً صعبة لمن يريد ترشيح نفسه لهذا المنصب. فعليه أن يحصل على تأييد ثلاثين ألف مواطن ممن لهم حق الانتخاب في خمس عشرة محافظة على الأقل، بحيث لا يقل عدد المؤيدين في أي من تلك المحافظات عن ألف مؤيد (المادة 27 من الإعلان الدستوري). أو أن يحصل على تأييد ثلاثين عضواً على الأقل من الأعضاء المنتخبين لمجلسي الشعب والشورى. ولكل حزب سياسي ممثل في البرلمان أن يرشح أحد أعضائه لرئاسة الجمهورية. في ضوء هذه النصوص الواضحة دعاني رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية لندوة تعقد في مقر الدار ويشترك فيها الكاتب الصحفي المعروف صلاح علي، موضوعها "ماذا نريد من الرئيس القادم". وقد بدأت حديثي مطالباً بإعادة صياغة السؤال ليكون: كيف نختار رئيس الجمهورية في البلاد الديمقراطية الغربية؟ ورأيت أن طرح هذا السؤال هو تمهيد للحديث عن المواصفات المرغوبة للرئيس القادم. ومن منظور علم السياسة المقارن، يمكن القول إنه في كل من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية لا يأتي رئيس الجمهورية أبداً من خارج الأحزاب السياسية، أي أنه لا حظّ للمستقلين في أن يشغلوا هذا المنصب. وفي فرنسا هناك خطوط أيديولوجية واضحة بين اليمين واليسار تتداول السلطة حسب نتائج الانتخابات البلدية والتشريعية. وهكذا يأتي رئيس الجمهورية من الحزب الاشتراكي لو حصل على الأغلبية أو من الحزب الديجولي لو حصل على الأغلبية. ونفس القاعدة تنطبق على الولايات المتحدة، حيث يتداول السلطة الحزبان الجمهوري والديمقراطي. وهكذا فاز "أوباما" برئاسة الجمهورية حين اكتسح الديمقراطيون الانتخابات الرئاسية التي خسرها الحزب الجمهوري. غير أن الحال مختلف تماماً في مصر المحروسة! فغالبية من أعلنوا عن ترشيح أنفسهم لمنصب رئيس الجمهورية، لا يعبرون عن أحزاب سياسية وإنما عن أنفسهم، وهذا الوضع مضاد للتقاليد الانتخابية في الديمقراطيات العريقة، حيث الحزب السياسي هو الذي يقدم المرشحين للرئاسة. وحين أطالع قائمة المرشحين لرئاسة الجمهورية في مصر يمكنني تصنيفهم إلى ثلاث فئات: الأولى شخصيات قومية، والثانية شخصيات عامة، والثالثة نكرات سياسية! ومن بين الفئة الأولى يتصدر القائمة عمرو موسى، إذ له شعبية واسعة بحكم أدائه الدبلوماسي، ومواقفه المعادية لإسرائيل، مع وجود من يعارضه داخل النخبة. ثم الدكتور البرادعي وهو شخصية قومية بلا جدال، لأنه رفع شعار التغيير والتف حوله مئات الآلاف. وهناك شخصيات قومية أخرى قد يكون أبرزها المناضل السياسي المعروف حمدين صباحي رئيس حزب "الكرامة" وهو صاحب تاريخ سياسي حافل. وشخصيات عامة منها مثلاً المستشار هشام البسطاويسي والذي كان عضواً نشطاً في حركة استقلال القضاء، والدكتور عبد الله الأشعل السفير السابق. وقد استطاع الإعلام المصري أن يوقع أبرز المرشحين للرئاسة في فخ خطير حين وجه لهم السؤال: إذا فزت بمنصب رئيس الجمهورية، فما أول قرار ستتخذه؟ وانبرى واحد منهم قائلاً: سأضاعف الأجور والمرتبات! بغير أن يدلنا على موارد الدولة التي تسمح له بذلك، وصرح آخر بأنه سيطبق سياسات لن تترك جائعاً أو فقيراً في مصر. وصرح ثالث بكل اندفاع أنه سيلغي اتفاقية كامب ديفيد. وصرح رابع بأنه سيلغي اتفاقية الغاز مع إسرائيل. وهي تصريحات تدل على سذاجة سياسية مفرطة، بل وعلى عدم فهم للإنجاز التاريخي لثورة 25 يناير، وهو القضاء النهائي على الحكم الفرعوني الذي كان يجعل رئيس الجمهورية هو من يتخذ القرار منفرداً! لم يفهم هؤلاء -للأسف الشديد- أن الشعب المصري لن يسمح لرئيس الجمهورية بعد الآن باتخاذ قرارات أساسية في السياسة الداخلية أو الخارجية بغير موافقة مجلس الشعب، وبعد مناقشات نقدية مستفيضة، وفي ضوء استطلاع الرأي العام والحصول على تأييده. انتهى عصر الفرعونية السياسية وبدأ عصر الديمقراطية المسؤولة!