كان اللقاء بمخرج فيلم "تيتنيك" جيمس كاميرون مصادفةً (14 مارس 2011)، بالعاصمة الإماراتية، على هامش معرض كتاب أبو ظبي الدُّولي، وتوزيع جائزة الشَّيخ زايد للكتاب السَّنوية، وكنّا ضيوفاً بدار المدير العام لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث. دخل رجل فارع القامة غربي النِّجار، همس لي الدكتور هيثم الزُّبيدي، بأن هذا القادم يُعد مِن أهم رجال الفن العالميين، وما كنت مِن قبل أحفظ اسمه، رغم مشاهدتي للفيلم مرتين، وإنه ليس مِن السَّهل بأوروبا اللقاء به. قلت: هل سمع الرَّجل بشعراء مِن أقاصي الأرض رثوا السَّفينة وركابها حين غرقها، وهما النَّجفيان ولادة ونشأة: الشَّيخ علي الشَّرقي (ت 1964)، والشَّيخ محمد رضا الشِّبيبي (ت 1965)، وكلاهما تبوأ في الدَّولة العِراقية مراكز مهمة في ثلاثينيات القرن الماضي وما بعدها، وكان الشِّبيبي موفد العراقيين إلى الحجاز، للموافقة على تولي فيصل الأول (ت 1933) عرش العِراق. دار الحديث مع مخرج "تيتنيك" حول تلك القصائد، وسأل من جانبه: هل تُرجمت إلى الإنجليزية؟ وعلى حد علمي لم يحصل ذلك. لكن لو كان يعلم بهما لربَّما استوحى مشهداً وأضافه لفلمه، وهو يُعد من الرَّوائع في عالم السينما! كنت كتبت مِن قبل مقالاً تحت عنوان "تيتنيك: لا تنسوا للشِّبيبي معلقته"، وذلك عندما أُعلن عن تأسيس مُتحف خاص بالباخرة وكارثتها، بعد أن لمحتُ خبراً مفاده أن مدينة (ساوثامبتون) البريطانية تستعد لافتتاح مُتحف حيث أبحرت السفينة، في أول رحلة قاصدة نيويورك. وكانت الكارثة في عرض المحيط الأطلسي. وقيل كانت كالقصر العائم، لسعتها وارتفاعها، واختلاف درجاتها على قدر طبقات المسافرين. يتضح ذلك من مشاهد الفيلم نفسه، عندما يعشق شاب من العامة ابنة أحد الخواص، ويأخذها إلى أماكن طبقته الرَّثة في السفينة، فتجد متعة بالحياة بعيداً عن رتابة طبقتها وتقاليدها الصَّارمة، ثم يغرقا معاً ويفديها بنفسه. وحسب حاشية ديوان الشيخ علي الشَّرقي فقد نشر قصيدته "دمعة على مستر ستيد" في جريدة "جبل عامل"، ثم في مجلة "العرفان" الصيداوية (أبريل 1912)، مع علمنا بأن الباخرة غرقت في 15 أبريل (نيسان) 1912، فربما كان التفاوت بين الحادثة والقصيدة أياماً لا أكثر، وليس هناك برق ولا فاكس ولا بريد إلكتروني، ولا وسيلة سوى الزائرين للضَّريح أو الجنَّازين أو طلبة العِلم الوافدين على المدينة بكثرة مِن لبنان. رثى الشَّرقي أحد الغرقى المهمين، وهو داعية السَّلام العالمي "المستر ستيد". إن التعاطف بحد ذاته مع داعية سلام عالمي، في ذلك الزمن الغابر، يُريك كم تلك المدينة، التي نمت حول ضريح في رملة قاحلة على مرمى من الفرات، متصلة بالعالم، على مختلف أديانه ومذاهبه، فالمستر ستيد لم يكن مسلماً ولا شيعياً، فعن أي عاطفة عبر ابنها صاحب العِمامة البيضاء الشَّرقي، سوى عاطفة الإنسانية! هكذا يسلم البشر عندما تغدو مدنهم الدينية داعيات للسَّلام والتَّضامن لا منابع للطائفية. قال الشَّرقي راثياً: "رنت عيني لمبسمه فأثرت.. ألم ترها تلوَّن بالعقودِ.. ترفع عِقده فأطحت عِقدي.. ولوحَ جيده فلويتُ جيدي". وقال في الباخرة: "أسيدة البواخر عنك تُفدى.. لو اكتفيت الرَّزية بالمسودِ.. وقلَّ وأنت سيدة الجواري.. بحزنك أن يطأطأ بالبنودِ.. واجفات المصيبةُ ناهداتٍ.. تجاذب فوق صدركِ بالنُّهودِ" (ديوان علي الشَّرقي). وكانت دالية الشَّرقي 55 بيتاً. بعد أربعة شهور مِن غرق تيتنيك (ورد اسمها في القصائد هكذا) نشر الشِّبيبي كافيته في (أغسطس 1912)، وقد قرضها الأب أنستاس الكرملي (ت 1947)، صاحب المجلة قائلاً: "قصيدة بديعة غراء، ألفاظها لآلئ عذراء، درية المباني، عصرية المعاني، تستنزل كلَّ شاعر في الميدان... كذا فليكن الشعر متيناً" (أغسطس 1912)، وكانت واحداً وأربعين بيتاً، منها: "بأبيك أقسم يا ابنة البحر الذي .. وأراك كيف رأيت فتك أبيك.. ما حط ثقلكِ في حشاه إهانة.. لكنه فرط احتفال فيكِ.. أمليكة البحر اسمعي لك أسوةً.. في الأرض كم ثلت عروش ملوكِ.. أنى يُنجيك الحديد وما نجوا.. بأشد مِن فولاذكِ المسبوك.. يا بابل البحر العظيم سحرتنا.. سحراً أرى هاروت في تيتنيكِ.. السُّحرُ آيتكِ التي توحينها.. أم أنتِ آيته التي توحيكِ.. وكأنك القمر الذي ألقى به.. ليضيئنا فلك السَّماء أبوك.. زعموا ضللتِ ولو أردت هدايةً.. كان المحيط بنفسه هاديكِ" (لغة العرب). بعد الشَّرقي والشِّبيبي بحوالي عقدين مِن الزَّمن رثى الشَّاعر المتفلسف جميل صدقي الزَّهاوي (ت 1936) "تيتنيك"، في ذكراها التَّاسعة عشرة، في نونيته "نشيد الغرقى" (16 أغسطس 1931)، ومطلعها: "ما بنا خوفٌ إذا الموتُ دنا.. نحن للموتِ كما الموتُ لنا". وهكذا ظلت تيتنيك في الذَّاكرة العراقية ردحاً مِن الزَّمن، ولا أهل المرثيين ولا المهتمين بشأن الباخرة يخطر على بالهم أن شعراء العِراق، وفي تلك الحِقبة، تنافسوا في إحياء مثل هذه المناسبة، وشغلتهم فخلدوها في قصائدهم. لا تستغربوا كيف وصل خبر الباخرة إلى النَّجف وتفاعل معها شعراؤها، ولا وسيلة مواصلات ولا اتصال. فكانت المجلات الثَّقافية تصل إليها، ويتلقفها طلبة العِلم، وعلى هذا النَّحو أنشأ السيَّد هبة الدِّين الشَّهرستاني (ت 1967) مجلة "العِلم"، ونشر فيها تأييداً لحقيقة دوران الأرض وكرويتها، وترى المجلة ملأى بالأخبار العِلمية، وهذا الفقيه كان يسعى في ما يكتب لكشف التَّوافق، قدر المستطاع، بين العِلم والدِّين، وأفتى وكتب مثقفاً الجمهور عدم جلب الجنائز إلى النَّجف لأمر يتعلق بالصحة العامة، كان ذلك 1911، وقد واجه الرَّجل حملة شعواء (الخاقاني، شعراء الغري). أكثر مِن هذا أن علماء النَّجف ردوا على الطَّلب العثماني بالموافقة على إدخال كتاب "أصل الأنواع" لداروين (ت 1882) إلى العِراق، ومعلوم ماذا يعني كتاب داروين ونظريته مِن رفض بأوروبا آنذاك، وبعد اجتماع أهل الفتوى العلماء أفتوا بجواز إدخاله، بشرط السَّماح لهم بالرَّد عليه (الشّيخ كاشف الغطاء ودوره الوطني والقومي عن حديث الجامعة النَّجفية). وبالفعل رد عليه الشَّيخ جواد البلاغي (ت 1932). هذا، ولا يُطلب مِن مدينة دينية سلوك ليبرالي فكري، آنذاك، أبلغ مِما سلكت. صفوة القول: إن النَّجف، في العقد الأول مِن القرن العشرين لم يحملها تدينها وطابعها المحافظ آنذاك على مناكفة شعرائها لأنهم رثوا داعية سلام، وغرقى ليسوا على دينهم!