حين ظهرت بواكير الانتفاضات الشبابية في تونس أولاً ثم في مصر...إلخ، كان الموقف شديد التعقيد بالنسبة إلى فئات كثيرة من المثقفين والسياسيين العرب، بل ربما كذلك بالنسبة لآخرين من بلدان أخرى، بما فيها بلدان أوروبية. وموضع التعقيد أن البشرية -في كثير من تجلياتها المجتمعية والجيوسياسية والاقتصادية- اعتادت أن تمر بطرق ومسالك معينة من التطور تكون فيها للأجيال -مع خصائص متعددة- سمات معينة من التجارب الكثيرة أو التقليدية من النضج السياسي والاجتماعي والثقافي والتنظيمي وغيره، تساعدها على تحقيق أهدافها في التغيير والتقدم. وقد حدث ذلك تحت عناوين متعددة، مثل الانتفاضة والثورة والتحرير والاستقلال والنهضة...إلخ. وإذا دققنا فيما يميز تظاهرات الشباب منذ أحداث تونس حتى الأحداث الراهنة في اليمن وليبيا وسوريا، عن أحداث تغييرية سابقة قامت بها أجيال أوَّلُ ما حَّد بينها تمثل من مواقع الإنتاج المهني والطبقي الاقتصادي عموماً وإجمالاً، بحيث ظهر ذلك بأسماء فلاحين أو عمال أو بورجوازيين أو إقطاعيين وغيرهم. الآن يظهر الأمر الجديد من موقع فئة اجتماعية ذات خصوصية عُمرية وجيلية بيولوجية محددة، وقد تجلى ذلك بفئة الشباب من الجنسين الإثنين كليهما -وهذا يكوّن سمة ذات أهمية ملحوظة في مجتمعات شبه تقليدية. ومن خصائص هذه الفئة أنها تلتقي في حدٍ أو حدود من الأعمار المتقاربة، ثم هي تلتقي في أن أفرادها -في إجمالهم- ينتمون إلى المدارس والجامعات والمعاهد، ولم يكونوا قد خرجوا بعد من مقولة الطلبة وما يرتبط بها، إضافة إلى أن مرحلتهم العمرية هذه تتحرك فيما قبل الدخول في حقل العمل المهني، الذي يجعل منهم -عادة- مستقلين في الحياة المادية، وطامحين لتحقيق أهدافهم وأحلامهم ومثلهم العليا. في هذه البنية السوسياسية والثقافية السيكولوجية، نشأ الجيل العمري، الذي فاجأ جلّ المراقبين والباحثين وأولئك المنتمين إلى الأجيال السابقة على هؤلاء الأخيرين، حين انتفضوا وراحوا يكتشفون، في سياق الفعل، ما يوحّدهم ويجعل منهم بنية جيلية متشظية في معظم التكوُّنات الاجتماعية والطبقية والأيديولوجية. أما الأكثر حسماً وأهمية فيما اكتشفه أولئك العمالقة الآخذون في التوحّد فكان كونهم يعيشون في وطن وصل إلى حالة حُطام وقفت دون تحقيق آمالهم من الحرية والكرامة والكفاية المادية من طرف، وكونهم من طرف آخر يجدون أنفسهم أمام أعظم وأنبل مهمة تواجههم في هذا الوطن، إنها مهمة تفكيك حالة الحطام المذكورة، وبناء أقطار عربية ترقى إلى مستوى التقدم الحضاري بكل تجلياته. وقد انطلق جيل الحرية العربي الجديد، واضعاً في حسابه مهمة إعادة بناء الداخل في ضوء العلم والعدالة والحرية. في هذا المعْقد التاريخي، تعمل بعض قوى النظام العربي على الرد على شباب التغيير، بطريقة زائفة تسعى للِّف على هؤلاء باتهامهم بأنهم يستمدون أفكارهم ومثلهم التغييرية من "الخارج الأجنبي". أما معنى ذلك لدى الجماعات الإجرامية المعنية هنا، فينقسم إلى شقِّين، يظهر الأول في الاعتقاد بأن بعض النُّظم المخابراتية العربية إنما هي نظم نشأت، لتبقى للأبد. أما الشق الثاني فيتحدد في القول بأن الشباب العربي ليسوا أكثر من أفّاقين تافهين عاجزين عن إبداع عربي جديد! إن التاريخ سيتجاوز أولئك.