لم يخل النظام العربي في أي مرحلة من مراحل تطوره من ظاهرة الخلافات بين وحداته، وبلغت هذه الظاهرة أحياناً درجة من الشدة جعلتها تنفجر في شكل مسلح، وإن كان هذا الشكل قد ظل يمثل الاستثناء. تعددت أسباب الظاهرة ولكن النتيجة واحدة. في مرحلة النشأة على سبيل المثال لعبت الطموحات الإقليمية وبالتحديد فكرة سوريا الكبرى التي رفع رايتها الملك عبدالله -الجد المؤسس للمملكة الأردنية الهاشمية- دوراً في خلاف استعر بين كافة الدول العربية المستقلة آنذاك وبين الأردن حول ضم الضفة الغربية الفلسطينية لمملكة شرق الأردن. وفي مرحلة المد القومي كان لمشروع التغيير الذي قادته مصر دوره في حدوث استقطاب سياسي حاد في النظام العربي لعل أبرز ملامحه تمثل في الصراع المصري السعودي حول الثورة اليمنية التي أيدتها مصر بقواتها المسلحة فيما مولت السعودية القبائل التي بقيت على ولائها للنظام الملكي. والمفارقة أنه عندما توقف مشروع التغيير لثورة يوليو بعد هزيمة1967 وبدأت السياسة المصرية تتجه إلى الاعتدال، زاد هذا الاعتدال عن الحدود المألوفة في النظام العربي آنذاك عندما بادر السادات بزيارة القدس عام 1977 وصولاً إلى توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل في1979 كأول معاهدة سلام بين دولة عربية وإسرائيل، وعندئذ حدثت القطيعة المصرية العربية المشهورة التي دامت عقداً من الزمان، ولم تبدأ في الانتهاء إلا مع تفاقم خطر الحرب العراقية الإيرانية على منطقة الخليج خاصة والنظام العربي عامة. ولم يكد النظام العربي يلتقط أنفاسه في نهاية الثمانينيات حتى وقع الغزو العراقي للكويت لينقسم العرب بشأنه كما لم ينقسموا من قبل، وظلت تداعيات هذا الانقسام حاضرة في العلاقات العربية - العربية حتى وقع الغزو الأميركي للعراق عام 2003. عادة ما كانت الأخطار الخارجية توحد الدول العربية، لكنها هذه المرة انقسمت بين من أيد إسقاط نظام صدام بالقوة عن طريق الولايات المتحدة ومن عارض ذلك، وكان الأمر الأكثر مدعاة للانتباه أن الافتراض بأن العراق "المعتدل" بعد الغزو سوف يدخل في علاقات تعاونية مع جيرانه قد سقط، فقد بدا أن عراق ما بعد صدام قد ورث عنه شبكة الخلافات نفسها مما أفسح المجال لفرض آخر، وهو أن الخلافات العربية -العربية، وإن أمكن تفسيرها في أحد أبعادها بالعوامل الفردية، الضاربة بجذورها في بنية النظام العربي، فقد توترت علاقات العراق أكثر من مرة مع الكويت حول قضية ترسيم الحدود وغيرها، وكذلك مع سوريا استناداً إلى اتهامها برعاية أعمال تخريبية، كما كان الحال في عهد صدام، ولم تكن علاقات العراق بالسعودية على ما يرام وإن اختلفت الأسباب هذه المرة. والآن يمر النظام العربي منذ بداية العام بمرحلة تغيير واضحة نتيجة نجاح الثورات الشعبية في تونس ومصر في إسقاط نظامي الحكم في البلدين، واشتداد حدة المطالبة بالتغيير في اليمن وليبيا وسوريا. ويبدو للوهلة الأولى أن هذه المرحلة بدورها سوف تكون لها بصمتها الخاصة على الخلافات العربية -العربية. لا ننسى أولاً أن القذافي كان القائد العربي الوحيد الذي أعلن امتعاضه من إزاحة الرئيس التونسي السابق الذي اعتبره أفضل الخيارات لتونس، وقد سبب ذلك في حينه توتراً بين الثورة التونسية والنظام الليبي، ولا ننسى ثانياً أن القذافي عندما بدأ يواجه أزمته الخاصة تبنى السلوك المعتاد لكل القادة الذين تعرضت نظم حكمهم لمطالب التغيير، وهو اتهام عناصر خارجية بتدبير الثورة، أو على الأقل تأييدها. وكان من نصيب تونس ومصر أن اتهم أبناؤهما المقيمون في ليبيا بالضلوع في العمل ضد نظام القذافي مع استخدام ألفاظ قاسية في وصف كل من البلدين، ولولا أن حكومتيهما قد تصرفتا بقدر كبير من الرشادة فضلاً عن انشغالهما بمهام البناء الجديد بعد نجاح الثورة، لحدث ما لا تحمد عقباه في علاقات ليبيا بكل منهما. وعندما اتخذ مجلس الجامعة العربية قراره بطلب فرض حظر جوي على ليبيا من مجلس الأمن، تحفظت كل من سوريا والجزائر على القرار، وبدا أن هناك تشكلاً لمحورين داخل النظام العربي. وفي الحالة المصرية كان من الطبيعي أن تنعكس الثورة بعد نجاحها على السياسة الخارجية التي كانت قد بلغت قبل الثورة حداً لم تصله من قبل من انعدام الفعالية وإعطاء الأولوية للعلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وافتعال الخلافات مع عدد من الدول المحورية في المنطقة. نصل بعد ذلك إلى الحالة اليمنية التي تدخلت فيها دول مجلس التعاون الخليجي بكثافة في محاولة للتوصل إلى تسوية سياسية على الأقل باعتبار أن الصراع في اليمن يجري في منطقة متاخمة للمجلس، ومن شأنه أن يؤثر بشكل أو بآخر عليه. ولم يؤدِ الدور الخليجي إلى أزمات حادة في العلاقات اليمنية الخليجية، مع أنه تبنى انتقال السلطة في اليمن من الرئيس إلى قيادة جديدة، لكننا نذكر أن أزمة يمنية قطرية قد تفجرت في هذا السياق، وأن الرئيس اليمني بدا في الأيام الأخيرة وكأنه يناور بورقة المبادرة الخليجية حتى يكسب وقتاً يعيد فيه ترتيب أوراقه. وبالنسبة لسوريا، ورغم الموقف الرسمي القائل بوجود أصابع خارجية خلف حركات الاحتجاج، فإن القيادة السورية لم تتهم دولة عربية واحدة بالاسم اللهم إلا بعض الاتهامات لقوى سياسية داخل لبنان. وقد انعكس ذلك كله على القمة العربية الدورية التي كان يفترض أن تعقد في مارس الماضي في بغداد، ثم اتخذ وزراء الخارجية قراراً بتأجيلها إلى منتصف الشهر القادم، غير أن كافة التطورات تشير إلى أنه لن يكون من الحكمة عقد قمة عربية في هذه الظروف التي ينشغل فيها الوطن العربي بقضايا التغيير الداخلي، وبالتالي فإن حركات التغيير قد "عطلت" آلية مهمة من آليات إدارة العلاقات العربية- العربية؛ كون انعقاد القمة في ظل مطالب التغيير وانفجار الخلافات العربية -العربية لن يكون قراراً سليماً. الأخطر من هذا يتعلق بمستقبل النظام العربي بعد أن تتوقف الموجات الراهنة للتغيير. وكنت قد كتبت هنا بعد نجاح الثورة التونسية أن الخبرة التاريخية لا تشير بالضرورة إلى أن هذه الموجات سوف تحقق نجاحاً في كل البلدان العربية؛ فلكل بلد ظروفه الداخلية التي تحدد مصير حركات التغيير فيه، ولو صح هذا التحليل فمعناه أننا بعد حين سوف نجد أنفسنا مجدداً أمام نظام عربي منقسم بين معسكر "التغيير" ومعسكر "الوضع الراهن"، فإذا ما نجح التيار الديني في السيطرة على الحكم في بلدان عربية فستتعقد الصورة أكثر، وتصبح المهمة الصعبة هي كيفية المواءمة بين متطلبات التغيير وضرورته وبين الحفاظ على الحد الأدنى من تماسك النظام العربي الذي يجب ألا ننسى أن دوله تواجه تحديات بالغة الخطورة.