تحولت حكومة الرئيس المصري السابق وأركان حزبه إلى سجن "ليمان طرة"، في حين يخضع هو نفسه للملاحقة في انتظار تحسن أوضاعه الصحية لنقله إلى السجن. حدث الأمر نفسه في تونس، بوتيرة أقل، لكن وفق التوجه نفسه أي التصفية القضائية لملفات العهد الاستثنائي السابق، من أجل وضع قواعد جديدة للحالة السياسية. ولدت هذه التحولات جدلاً قانونياً-سياسياً حاداً حول الخيار الأمثل بين مسار التوافق والمصالحة مع ما يقتضيه من ثمن السكوت عن انتهاكات حقوق الناس وجرائم الحق العام ومسار الملاحقة القضائية مقدمة لتطبيع الوضع السياسي، مع ما قد ينجر عنه من تهديد للسلم الأهلي وتأجيج للفتنة الداخلية. ولقد انعكس هذا السجال في تحولين بارزين في النسق القانوني، هما من جهة إنشاء المحاكم الدولية المختصة بجرائم حقوق الإنسان، التي تكاد تكون مختصة بمقاضاة عتاة الحكام المستبدين (في ما وراء مقاييس السيادة الوطنية)، ومن جهة أخرى تبلور أنماط جديدة من العدالة أطلق عليها مفهوم "العدالات الانتقالية" تفضي إلى المسامحة والمصالحة. بدأت تجربة العدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا في سياق التحضير لنهاية نظام التمييز العنصري، وأخذت شكل محاكمات شعبية أطلق عليها هيئات الحقيقة والمصالحة، عهد إليها بإماطة اللثام عن التجاوزات والجرائم وإنصاف الضحايا وصولًا إلى تسوية غير جزائية للملفات العالقة. نجحت التجربة بصفة خارقة في جنوب أفريقيا، وتم تمريرها جزئياً للمغرب في نهاية عهد الملك الراحل الحسن الثاني وبداية حقبة الملك الحالي محمد السادس، وأفضت إلى نتائج مثمرة انعكست إيجابياً على منعرج "التناوب التوافقي"، الذي أنهى الأزمة السياسية مع أحزاب المعارضة. هل يتعين اللجوء إلى التجربة ذاتها في الساحات العربية الملتهبة، لتسهيل انسحاب واعتزال الحكام المتشبثين بالحكم خوفاً من الملاحقة والمتابعة القضائية ولتطبيع الوضع السياسي في الساحات التي اقتلعت فيها الثورات أنظمة الحكم؟ للمسألة جوانب قانونية وسياسية ملتبسة ومعقدة تتمحور حول الإشكالية الفلسفية الخاصة بالعلاقة بين العدالة والذاكرة والمسامحة التي شغلت كبار مفكري العصر الراهن من هيجل إلى ريكور ودريدا. في التقليد الغربي تحيل العدالة إلى فكرة المساواة والتكافؤ وإعطاء كل ذي حق حقه، كما تقوم على حفظ الذاكرة والاحتفاظ بسجل الوقائع، في حين تعني المسامحة التنازل عن الحق وتناسي الجرم والسكوت عن الذنب. كان "جان ميشيليه" مؤرخ الثورة الفرنسية المعروف قد عرف الثورة بأنها "صراع بين مبدأ العدالة ومبدأ الرحمة"، أي بين النسق العقلاني القائم على المساواة والتكافؤ، الذي كرسه فكر الأنوار وقيم الرحمة المسيحية التي كانت الإطار المعياري لتحكم الاستبداد السياسي المتحالف مع المؤسسة الدينية. المسامحة من هذا المنظور اللاهوتي تعني تجاوز العدالة بقبول انتهاك الحق والسكوت على الظلم انطلاقاً من قيمة روحية أسمى هي الرحمة، في الوقت الذي تقوم المدونة القانونية الحديثة على مفهوم الحقوق المتساوية القابلة للصياغة الكونية الشاملة. وكان الفيلسوف الألماني "كانط" قد انتقد في كتابه "الدين في حدود العقل وحده" لاهوت الرحمة المسيحي، مميزاً بين الديانات التي تبحث عن الامتيازات (الديانات الشعائرية البسيطة)، وديانات الواجب الخلقي (أي البحث عن السلوك القويم). ومن الجلي التأثير المسيحي في مسار "الحقيقة والمصالحة"، الذي بلوره في جنوب أفريقيا الأسقف الانجليكاني "دوسمان توتو"، انطلاقاً من مسلمة أولوية الرحمة على العدالة، مما ولد أوانها انتقادات كثيرة داخل الساحة السياسية انطلاقاً من المشكل المعياري، الذي يطرحه حق تنازل وكلاء الضحايا وشهود المسرح القضائي عن حقوق الضحايا سواء بالمفهوم الفردي أو بالمقياس الجماعي (التمييز ضد عرق بكامله). بيد أن تقنيات الاعتراف والصفح المسيحي توظف هنا في الواقع ضمن حسابات سياسية نفعية دقيقة هي تضميد جراحات عهد التمييز العنصري وتوطيد السلم الأهلي، في حين أن العفو بمفهومه الأصلي كما يبين "دريدا" لا يستقيم مع أي توظيف غائي ولو نبيل، بل يظل استثنائياً وخارقاً، يصدر عن أفق أخلاقي أقصى ولا مشروط. فالسؤال المطروح هنا بخصوص أنماط العدالة الانتقالية الجديدة يتعلق بالحد الفاصل بين الجريمة السياسية (التي يمارسها الحاكم من موقع مسؤوليته) والجريمة في بعدها الإنساني العادي. فإذا كان بالإمكان الفصل بينهما في سياقات ظاهرة واضحة (كجرائم خيانة الوطن وتعريض أمنه ومصالحه للخطر، التي هي جرائم سياسية خالصة)، إلا أنهما تتداخلان وتمتزجان في حالات كثيرة كجرائم انتهاك حقوق الإنسان التي يلتقي فيها المستويان. فإذا كان من المقبول والسهل اللجوء إلى الأساليب التوافقية غير الجزائية لمعالجة الملفات السياسية الصرفة، فإن الجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات الفظيعة للكرامة البشرية، وإن كانت لها خلفياتها واستتباعاتها السياسية إلا أنها تتجاوز حيز المسؤولية الفردية من حيث كونها انتهاكاً لكرامة النوع الإنساني ذاته، ولذا لا تنتفي بالتقادم ولا تخضع لاختصاصات السيادة الوطنية أو الإقليمية. ومن هنا توجب التمييز في الساحات العربية، التي شهدت مؤخراً ثورات ديمقراطية ناجحة بين مسارات ثلاثة متمايزة: - مسار الأزمة السياسية الذي يتطلب تخفيف الاحتقان وفتح قنوات الحوار بين مختلف الفاعلين دون إقصاء، وصولاً لقواعد توافقية لإدارة حقل التعددية السياسية. - مسار العدالة والإنصاف الذي يتطلب شروطاً ثلاثة هي: إماطة اللثام عن الانتهاكات والتجاوزات ومقاضاة المسؤولين عنها وتعويض الضحايا مادياً ورمزياً. - مسار المسامحة والصفح الذي يفضي إلى توطيد اللحمة الاجتماعية وتوثيق الأرضية التوافقية المطلوبة للبناء الديمقراطي المنشود بمنأى عن روح الثأر والضغينة. في كتابها المتميز "ظرفية الإنسان الحديث" لاحظت الفيلسوفة "حنة آرنت" أن من ثوابت الشأن الإنساني أن البشر عاجزون عن العفو عن ما لا يمكن أن يكون موضوع عقوبة، بقدر ما هم غير قادرين على معاقبة ما لا يمكن الصفح عنه. ومن هنا وجاهة الجمع بين مسؤولية العدالة ورمزية المسامحة في أبعادها الإنسانية الرحبة.