يعتبر السل أو الدرن، واحداً من ثلاثة أمراض تشكل ما يمكن أن نطلق عليه محور الشر الطبي، والذي يتضمن أيضاً كلاً من الأيدز، والملاريا. ويمكن من خلال الأرقام الخاصة بالسل، أن ندرك بسهولة كيف حصل هذا المرض على هذه السمعة السيئة بين أمراض وأوبئة الصحة العامة. حيث تظهر الإحصائيات أن ثلث سكان العالم حالياً، أو ما يزيد عن ملياري شخص، قد وقعوا ضحية -من وقت لآخر- للميكروب الذي يسبب السل. وفي عام 2007 مثلًا، بلغ عدد المصابين بالصورة النشطة من المرض قرابة الـ14 مليون شخص، مع حدوث أكثر من 9 ملايين عدوى جديدة سنوياً، ووفيات تقارب مليوني شخص سنوياً أيضاً. وبناء على هذه الأرقام وبحسبة بسيطة، يتضح أن ميكروب السل، وبمرور كل ثانية ينجح في عدوى وغزو جسد شخص جديد، متسبباً في محصلة نهائية من الوفيات تقارب تلك التي تنتج عن فيروس الإيدز، أو طفيلي الملاريا، وربما تتفوق عليها أحياناً، مما يجعل السل في مقدمة قائمة الأمراض التي تفتك بالجنس البشري على الإطلاق. والسل هو مرض معدٍ، وقاتل في كثير من الأحوال، يتسبب فيه نوع خاص من البكتيريا يصيب غالباً الرئتين، وإن كان يمكنه إصابة أجزاء أخرى من الجسم. وتقع العدوى من خلال الرذاذ الناتج عن سعال، أو عطس، أو بصق الشخص المصاب بالحالة النشطة من المرض، حيث يتسبب المريض الواحد في انتقال الميكروب إلى ما بين عشرة إلى خمسة عشر شخصاً آخر سنوياً. وشهد التاريخ الدموي للإنسان مع ميكروب السل تغيراً جذرياً، مع اكتشاف المضادات الحيوية، وبالتحديد عقار "الستربتوميسين"، وهو الاكتشاف الذي ولد آمالاً كبيرة في أن البشرية ربما سيكتب لها أخيراً الانتصار، في معركتها المصيرية مع هذا المرض اللعين. ومما زاد من هذه الآمال حدوث انخفاض هائل في حالات السل مع انتشار استخدام "الستربتوميسين". غير أن هذه الآمال سرعان ما تلاشت مع ظهور أنواع من الميكروب مقاومة للمضادات الحيوية، أدت إلى عكس الوضع، وتسببت في تزايد مطرد في عدد المرضى مرة أخرى. وهو ما دفع منظمة الصحة العالمية في عام 1993 إلى الإعلان عن تحول السل إلى طارئ عالمي، في سابقة هي الأولى من نوعها. ولعبت العولمة دورها، عند ظهور النوع الأخطر من الميكروب، المقاوم لعدة عقاقير من العقاقير الأولية التي تستخدم في العلاج. حيث أظهرت دراسات منظمة الصحة العالمية، وجود هذا النوع تقريباً في جميع الدول التي خضعت للمسح، بسبب سهولة انتقال المرضى الحاملين لهذا النوع بين الدول والقارات، كنتيجة حتمية لتزايد ظاهرة العولمة في شكلها الحديث. وهو ما دفع العديد من الدول لتكثيف جهودها في منع دخول الأشخاص الحاملين للميكروب، سواء العادي منه أو المقاوم للعقاقير، وبالتحديد لمن ينوون الإقامة لفترة طويلة، سواء للعمل، أو للدراسة، أو الهجرة الدائمة. ولذا نجد أنه من الروتيني حالياً، طلب فحص طبي شامل، يتضمن أشعة على الصدر، قبل إصدار إقامات العمل أو الدراسة، أو فيزا الهجرة. وإن كان تزايد أعداد المصابين بالسل في الدول الأوروبية، والدول الغنية، وخصوصاً بين مجتمعات المهاجرين الجدد، وتجمعات العمالة الوافدة، يظهر فشل هذه الإجراءات إلى حد ما. وهو الفشل الناتج من حقيقة أن صور الأشعة تفيد فقط في الحالات النشطة من المرض، المصاحبة غالباً بأعراض وعلامات. حيث يتميز ميكروب السل بسلوك غريب إلى حد ما، فمن بين 100 شخص يصابون بالعدوى، نجد أن حوالي 5 بالمئة فقط منهم تظهر عليه علامات وأعراض المرض فوراً، ويصبحون قادرين على نقل العدوى للآخرين، وفي نفس الوقت نجد أن في أكثر من تسعين بالمئة من حالات العدوى الجديدة يدخل الميكروب في حالة من السكون والسبات، من دون أية أعراض أو علامات، ومن دون القدرة على الانتقال للآخرين. ولكن بمرور الوقت، وبعد سنوات، وربما عقود، نجد أن عشرة بالمئة من هؤلاء، يتحول المرض عندهم إلى الصورة النشطة، بكامل الأعراض والعلامات، والقدرة على نقل العدوى للآخرين. هذا السلوك المميز لميكروب السل، يعني أن إجراء صور أشعة على صدور المهاجرين والعمال، سوف يكشف عن 5 بالمئة فقط من المرضى، المصابين بالصورة النشطة من المرض، بينما سيتم السماح للتسعين بالمئة الباقين والحاملين للميكروب بالدخول. ورغم أن الجزء الأكبر من هؤلاء سيظل المرض بداخلهم في صورته الساكنة، إلا أن عشرة بالمئة منهم بمرور الوقت سيتحولون إلى مصدر لانتقال العدوى للآخرين. هذا السيناريو، هو المسؤول الأول عن الفشل النسبي في الحد من انتقال ميكروب السل -العادي أو المقاوم للعلاج- بين الدول والقارات. وإن كان هذا الوضع سوف يبدأ بالتغيير عن قريب، مع تحقيق اختراقات على صعيد الاختبارات التي يمكنها الكشف عن المرض، بصورتيه النشطة والخاملة، من خلال فحص دم بسيط. حيث أصبحت تتوافر حالياً عدة فحوصات، يمكنها من خلال عينة دم، تحديد إذا ما كان الشخص مصاباً بالصورة النشطة أو الساكنة من المرض، أو أن جسده خالٍ تماماً من الميكروب. مثل هذه الفحوصات، لن تترك وقعاً وأثراً فقط على جهود مكافحة انتقال ميكروب السل عبر الحدود، بل ستمثل أيضاً نقطة تحول رئيسية في الصراع التاريخي بين ميكروب السل وبين أفراد الجنس البشري.