بعد عقود طويلة من السيطرة على مقدرات البلدان والزعم بإنشاء دول حديثة يتبدى اليوم الفشل المذهل الذي راكمته بعض الأنظمة العربية في طول وعرض هذه المنطقة من العالم. كل مشاريع التحديث الظاهري لم تنجح في خلق مجتمعات وبلدان قائمة على مبدأ المواطنة الدستورية والمساواة الكاملة أمام القانون. كل ما كان ولا زال على السطح هو مجرد قشرة ظاهرية من التحديث الهش. وإذا تعرضت هذه القشرة الهشة للتهديد والهدم فإن كل بنية ما قبل الدولة تكون هي الثابت شبه الوحيد. ولئن كانت هناك جرائم حرب يُحاكم بسببها من يقترفون جرائم إبادة بحق شعوبهم فإن جريمة إضاعة عقود زمنية طويلة من عمر الشعوب ربما لا تقل فداحة، ويستحق الحكام والأنظمة التي تقترفها المحاكمة. أحد خطابات الأنظمة المتهاوية جراء الثورات العربية يقوم على التهديد من أن زوال النظام يعني انحدار البلد نحو مهاوي الحرب الأهلية والارتكاس إلى النزاعات القبلية والانقسام الجغرافي بحسب الإثنيات والطائفيات. أشد تمثلات هذا الخطاب الآن تتجسد في ليبيا وسوريا، حيث الخطاب الرسمي يطرح واحداً من خيارين أمام الناس: إما مواصلة الخضوع للاستبداد وحكم الفرد، أو إشعال البلد في أتون حرب أهلية قبلية وطائفية، قد لا تنتهي إلا بالتقسيم. هكذا إذن نكتشف أن ضياع كل السنوات الطويلة التي كان من المفترض أن تُستثمر في بناء دولة قانون حديثة يتحول فيها الأفراد من رعايا تابعين لقبائل أو طائفيات إلى مواطنين كاملي الحقوق والواجبات، ومتساوين أمام الدستور. في تبني خطاب التخويف من الحرب الأهلية واحتراب القبائل والطوائف تعترف الأنظمة الخائفة من الانهيار بأنها تستحق الإطاحة والانهيار فعلاً لأنها لم تقم بأدنى ما كان يجب أن تقوم به في سبيل نقل بلدانها إلى مرحلة دولة القانون المتماسكة والعادلة. والمعضلة البنيوية التي تعامت عنها بعض الأنظمة، وتعامى عنها مناصروها ومؤيدوها من منظري الوضع القائم، تمثلت في استنزاف مقدرات البلدان متمثلة بأمرين: أولهما المحافظة على الوضع القائم وحكم الفئة المسيطرة، وثانيهما الاهتمام الشكلي بمظاهر التحديث الخارجي من دون بذل أي جهد في ترسيخ الحداثة السياسية والمواطنة. والتحديث الخارجي يعني استيراد أشكال التكنولوجيا وتركيبها فوقياً ومظهرياً على البنيات التقليدية من دون تحديها أو تفكيكها. بينما الحداثة بتعريفها العريض والتنوير يعني تغيير أنماط العلاقات والولاءات ومصادر الشرعيات لتصبح عقلانية توافقية وديمقراطية وغير قائمة على روابط الدم أو الانتماءات الدينية. لم يحدث أي من ذلك، ولهذا فإن النهاية المأساوية تمثلت في أن الشيء الوحيد الذي ترسخ في عقود ما بعد الاستقلال في الدولة العربية هو الاستبداد المبني على التحديث الهش، وهو أسوأ أنواع الاستبداد – الاستبداد الذي يأخذ كل شيء ولا يعطي أي شيء. فمن ناحية تاريخية هناك مقايضة كبرى قام عليها الاستبداد العربي، وعملياً معظم نظم الاستبداد في تجارب الشعوب، وهي تقوم على تحقيق إنجازات خارجية كهزيمة عدو خارجي مثلاً أو ترقية البلد المعني إلى درجة نفوذ عالمي، أو داخلية كإنجاز تنمية وتقدم واقتصاد ناجح، أو بناء مجتمع ودولة متماسكة، ومقابل ذلك كله يتم شراء سكوت الناس على استبداد حكامهم. منذ عهود الاستبداد الفرعوني ومروراً بكل الإمبرطوريات التي مرت في تاريخ البشر يمكن أن نلتقط وجود هذه المقايضة أو المعادلة بتنويعات مختلفة. منظرو هذه المقايضة دافعوا عنها بكونها تحقق الاستقرار والازدهار للمجموعة البشرية المعنية وتحقق وحدتها، حتى ولو على حساب حريات أفرادها. هذا التنظير الذي ساد قديماً، وصار مرفوضاً في هذه الأيام، لم يخلُ من منطق ما إلى هذه الدرجة أو تلك بحسب الحالة. ولم تتحطم الأركان الأساسية لهذه النظرية إلا بعد بزوغ التنوير والحداثة السياسية، التي فككت هذا الاشتراط القسري بين تحقيق الإنجازات وتبني الاستبداد، وقدمت عوضاً عن ذلك الحرية بكونها الأرضية الأكثر ديمومة للإبداع الإنساني. مهما نجح الاستبداد في تحقيق مستويات عالية من الإنجاز فإن قاعدته، الاستعبادية، هشة والدليل الحديث الذي ما زال يعيش معنا هو الاتحاد السوفياتي. التحدي الحقيقي هو البناء مع الحرية وليس على حسابها. الاستبداد العربي الحديث يريد تقديم معادلة ومقايضة من نوع مدهش وتخلو تماماً من أي منطق. يريد سكوت الشعب وتخليه عن حرياته وقبوله بالقمع وخضوعه لحكم حفنة منتفعة من الأفراد، مقابل لا شيء! ليس هناك إنجازات خارجية أو داخلية يمكن لهذا الاستبداد استخدامها وتوظيفها في الدعاية الديكتاتورية. أنظمة الاستبداد العربي عملت على إدامة التكلس والتخلف في بلدانها وجمدتها في ذيل قوائم معدلات التنمية والتقدم بين بلدان العالم. لم تنشغل هذه الأنظمة في تنمية بلدانها بل استنزفت جهودها في أمرين: الأول هو المحافظة على موقعها في الحكم ولو أدى ذلك إلى طحن كل الشعب، والثاني النهب المتواصل وبناء بطانة تستميت في دفاعها عن النظام لأنها وحدها المستفيدة منه. بأي حق يُطالب أي شعب عربي في قبول مثل هذه المعادلة وعلى أي أساس، ولماذا؟ ما هي شرعية هذه الأنظمة التي لم تقدم لبلدانها سوى التخلف والهزيمة، ولماذا تسكت شعوبها عليها؟