مرت على الإعلام والرأي العام العربيين أسماءُ فلسطينياتٍ برزن في الحقل السياسي، إن على مسرح المفاوضات مع إسرائيل، كما هو الشأن بالنسبة لحنان عشراوي مثلاً، أو في ميادين العمل النضالي الحزبي الداخلي، كما هو شأن القيادية في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" خالدة جرار وغيرها من النساء القياديات في حركتي "فتح" و"حماس"... لكن لم يسبق في التاريخ الفلسطيني أن تبوأت امرأة موقع القيادة على رأس حزب سياسي، قبل زهيرة كمال التي انتخبت أميناً عاماً لـ"الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني" (فدا). فخلال اجتماع المؤتمر الثالث للحزب، المنعقد أوائل الشهر الجاري في مدينة "رام الله"، والذي شارك فيه أعضاء اللجنة المركزية وأعضاء المكتب السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة والفروع الخارجية، تم انتخاب كمال بإجماع المؤتمرين أمينةً عامةً للحزب. وتعتبر زهيرة كمال من القيادات النسائية البارزة في فلسطين، وقد سبق لها أن شغلت العديد من المناصب السياسية والرسمية، بما في ذلك منصب وزير شؤون المرأة في الحكومة الفلسطينية، كما قضت سنوات طويلة في خدمة المجتمع المدني وفي جهود تطوير دور المرأة وترقية مكانتها. ولدت زهيرة كمال عام 1945 في مدينة القدس، حيث لازالت تعيش إلى اليوم، ودرست الفيزياء والكيمياء بجامعة عين شمس في القاهرة، ثم التحقت بمعهد تدريب المعلمات حيث زاولت التدريس به طيلة عشرين عاماً، حازت خلالها على شهادات في مجال التربية والتعليم من جامعات في الأردن وبريطانيا. لكن بعد تخرجها من الجامعة بسنة واحدة، توفي والدها، وكانت الأكبر بين إخوانها وأخواتها، فقررت الإحجام عن الزواج، آخذةً على عاتقها النهوض بمسؤولية استكمال تعليمهم جميعاً، وهي المهمة التي أكملتها حتى النهاية. وقد انخرطت كمال في العمل الوطني الفلسطيني منذ شبابها المبكر، فانضمت إلى "حركة القوميين العرب"، ثم التحقت بفصيل منبثق عن الحركة هو "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" بزعامة نايف حواتمة، حيث احتلت منصب أمين القيادة المركزية في الجبهة. لكن عقب الانشقاق الذي عرفته الجبهة، التحقت بجناح "خط التجديد" الذي قاده بعض الرفاق القدامى في الجبهة، مثل ياسر عبدربه، وصالح رأفت (الأمين العام الأخير لـ"فدا")، وممدوح نوفل (أصبح فيما بعد مستشاراً عسكرياً لعرفات)، وعصام عبد اللطيف... قبل أن يؤسسوا "الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني" (فدا) بقيادة عبدربه الذي أصبح أحد رجالات عرفات المقربين، فأوكل إليه بعض المهام الخارجية السرية، وكان من المبادرين لفتح قنوات اتصال بالإسرائيليين، كما شغل مناصب وزارية، مثل الثقافة والإعلام وشؤون مجلس الوزراء، بالإضافة إلى منصبه الحالي كأمين لسر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وتخلى عبدربه عن قيادة "فدا" عام 1995 لـ"صالح رأفت" الذي بقي على رأسه حتى حلّت محله زهيرة كمال أوائل الشهر الجاري، لكن عبدربه احتفظ بجزء كبير من نفوذه على الحزب، كما أن موقعه القوي داخل السلطة الفلسطينية، مكن لبعض قادة الحزب من تولي مناصب رسمية مهمة، ومنهم زهيرة كمال التي تولت منصب وزارة المرأة والشؤون في أربع حكومات فلسطينية بين عامي 1999 و2006. وخلال تلك الفترة صبت جهدها على ثلاثة محاور رئيسية؛ أولها مواجهة فقر النساء المعيلات للأسر، وثانيها التكوين المهني والتقني للنساء الشابات، وأخيراً مشاركة المرأة في صنع السياسات واتخاذ القرار. كما شكّل العنف ضد المرأة وزواج القاصرات، موضوعين رئيسيين حاولت كمال تعبئة الأجهزة الحكومية والمنظمات والحركات النسائية للتصدي لهما. وشاركت في جهود مشتركة بين وزارتها ووزارة العدل لوضع مشروع قانون يعاقب مرتكبي "جرائم الشرف" ويحمي النساء الضحايا، فضلاً عن مشروع قانون آخر يمنع زواج القاصرات. إلا مطالبتها بتبني قانون يسمح لأي فلسطينية تجاوزت سن الثامنة عشرة بالزواج ممن تريد، وبدون مواقفة ولي أمرها، قوبلت بانتقاد شديد من قبل الأوساط الفلسطينية المحافظة. وعقب خروجها من الوزارة عام 2006، ساهمت كمال خلال العام نفسه في تأسيس "مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق" برعاية "اليونسكو" وتولت رئاسته، وهو "مؤسسة تعنى بتعزيز حقوق المرأة الفلسطينية وتفعيل دورها في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، كما تسعى نحو إيجاد مجتمع تكون المعلومات والبيانات فيه بمثابة حافز للتغيير وتحقيق العدالة بين الجنسين". وفي هذا الإطار تذكر كمال ضمن محاضرات ومقابلات صحفية أجرتها خلال الأشهر الماضية الأخيرة، أن المرأة الفلسطينية تتعرض للاستغلال في العمل، وأنها تحصل على 70 في المئة فقط من الراتب الذي يحصل عليه زميلها الموظف. كما تقول إن نسبة مشاركة المرأة الفلسطينية في سوق العمل لا تتجاوز 16 في المئة، لكنها تتحدث عن تغير ملموس طرأ على واقع المرأة الفلسطينية، بما في ذلك ازدياد عدد النساء اللائي هن في مواقع قيادية متقدمة. لكن ماذا عن تأثير وجود زهيرة كمال نفسها كزعيمة لحزب "فدا" على واقع الحزب ومستوى أدائه؟ تجيب هي نفسها بالقول إن انتخابها أميناً عاماً للحزب لن يؤثر على سياسته التي أُقرت من قبل المؤتمر العام، وإن وجد بعض التطوير أو التعديل، فإنه يقتصر على أسلوب العمل، بما في ذلك وضع خطة تحدد الأولويات التنفيذية لإنجاح سياسة الحزب. ويعد "فدا" أحد الفصائل الصغيرة المكونة لمنظمة التحرير، وإن عرفَ الرأيُ العام من قادته عبدربه فقط، وذلك لموقعه داخل السلطة الفلسطينية، وعلاقته بملف المفاوضات مع إسرائيل... إلا أن باقي قيادات الحزب لا تكاد تكون معروفة للكثيرين. أما قاعدته الشعبية فمحدودة للغاية، إذ لم يستطع الفوز بمقعد واحد في الانتخابات التشريعية الأخيرة. ورغم ذلك فقد اعتبرت كمال أن فوزها بقيادته يمثل بداية اختراق للحواجز الزجاجية أمام المرأة... لكن الحواجز دون النجاح في قيادة الأحزاب الصغيرة، بإعادة بناء صورتها وإثبات جديتها لدى الرأي العام، لا تقل صعوبة عن اجتياز العوائق نحو قيادة الأحزاب الكبيرة والمؤثرة! محمد ولد المنى