في نهاية ديسمبر الماضي سطرت في هذه المساحة مقالة بعنوان "نهاية العصر الأميركي" قدمت فيها ستة أسباب علمية على بداية تراجع وأفول الدور الأميركي على المستوى الدولي بالرغم من بقائها كقوة عالمية قوية، بل الأقوى على المستوى الدولي كما أكدت دورية "فورين أفيرز" الرصينة الأكثر تأثيراً في السياسة الخارجية الأميركية، فإن مستقبل النظام العالمي الجديد يتمحور حول ثلاث قضايا: تغير طبيعة توازن القوى، خطورة وتهديدات قضايا البيئة، وأخيراً تأرجح الدور الأميركي. وقدمت أسباباً علمية تدعم رؤية التراجع الأميركي. وتحول النظام العالمي إلى نظام التعددية القطبية على المستوى الاقتصادي أولاً وليستمر ذلك التحول ليشمل النواحي السياسية والعسكرية. وصعود قوى مهمة وقوية في إقليمها، ويجب أن تأخذ حقها كونها دولاً نجحت في أن تكون مؤثرة بسبب قدراتها ومكانتها ودورها في إقليمها وحتى خارجه. ومن تلك الدول ما بات يُعرف في العلاقات الدولية بمصطلح BRIC:الصين وروسيا والهند والبرازيل ودخول مجموعة العشرين على الساحة الدولية وظهور قوى إقليمية مؤثرة كل في إقليمها كتركيا والمكسيك وإندونيسيا. وازدياد أدوار وتأثير وخطورة ما يُعرف بـ"الفاعلين من غير الدول" وخاصة في الدول الضعيفة. وتتفاوت أنواع "اللاعبين من غير الدول"من منظمات حكومية وغير حكومية ومنظمات إرهابية وانفصالية. كما أن استمرار تفاقم الأزمة المالية العالمية ومعاناة أميركا لأكبر عجز في الموازنة العامة والدين العام للولايات المتحدة على مر التاريخ مع تداعيات الأزمة المالية العالمية ينعكس سلباً على التزاماتها حول العالم. وإذا أضفنا لكل تلك المتغيرات المهمة والمتقاطعة وجود شخصية براغماتية واقعية مثل أوباما وفريق عمله الذي ينتهج مقاربة واقعية عملية بنظرته للقضايا الدولية والدور الأميركي في التعامل معها آخذاً في الحسبان جميع تلك المتغيرات السابقة بالإضافة لإبقاء أوباما عيناً على الترشيح لولاية ثانية فيما شعبيته في تراجع لدى الناخبين الأميركيين. والراهن أن جميع تلك العوامل تشكل ما يمكن وصفه بعقيدة أوباما الاستراتيجية غير المؤدلجة التي ترى الدور الأميركي مشاركاً وليس متفرداً في الشأن الدولي، ورافضاً للحروب العقائدية والاستباقية. ويمكن أن نضيف على تلك العقيدة التدخل الإنساني لحماية المدنيين. وهنا تبرز الحالة الليبية التي تردد أوباما في الدخول فيها ثم شاركت أميركا فيها كتدخل إنساني لحماية المدنيين كقوة لا تقود بل تركت القيادة للأوروبيين وخاصة فرنسا وبريطانيا. وتم تسليم القيادة لحلف شمال الأطلسي. وبعد تخبط وتعثر، عادت إدارة أوباما للتدخل بشكل إرسال طائرات من غير طيار المميزة بالطيران المنخفض ودقة الإصابة، ولكن هذا قد يقود أميركا لمستنقع شبيه بما يجري في وزيرستان باكستان بسقوط مدنيين أبرياء مما يعمق الدور العسكري الأميركي المتردد، والذي قد يبدأ مع بدء تجليات حملة انتخابات الرئاسة الأميركية بالتحول لكعب أخيل أوباما، وفرص فوزه بولاية ثانية. خاصة وأن قدرة أوباما على إقناع الناخبين الأميركيين وخصومه في الحزب "الجمهوري" وفي "حزب الشاي" بالأهمية الاستراتيجية لليبيا، تبقى غير مقنعة فيما تبقى الجهود العسكرية الأميركية متعثرة في أفغانستان وحتى باكستان. أميركا أوباما تبدو مقتنعة بترك القيادة للقوى والمنظمات الأخرى في عالم متعدد الأقطاب. ويبدو أن الحالة الليبية تشكل النهج الجديد لدور الآخرين.