في الأساس اخترعوا بدعة اسمها الوزارات السيادية الموزعة على الطوائف الأربع: الموارنة، والسُنة والشيعة والأرثوذكس، وهي وزارات الدفاع والداخلية والمالية والخارجية. وكأن السيادة لا تستقيم والجيش لا يقوى دوره ويتعزز حضوره ويطمئن الناس إلا إذا كان وزير الدفاع من الطائفة الأرثوذكسية الكريمة. وكأن ليس ثمة في الطوائف الأخرى من هو قادر على ذلك! وكأن الأمن الداخلي لا يستتّب وقوى الأمن الداخلي لا تتأهل وتصبح قادرة على القيام بواجبها والبلديات لا تعمل بشكل جيد، والقوانين لا تطبق، والناس لا ترتاح إلا إذا كان الوزير من الطائفة المارونية الكريمة. وفي المقابل كأن السياسة الخارجية لا تنتظم، وعلاقات لبنان الخارجية لا تتعزز، ودور لبنان لا ينمو وحضوره في المنتديات الدولية والإقليمية وسلكه الدبلوماسي لا يتطور إلا إذا كان الوزير من الطائفة الشيعية الكريمة. أما المال، فكأن الاستقرار المالي، وحماية مصالح الناس وضبط الإنفاق، ووقف الهدر واعتماد سياسة ضريبية عادلة، والوصول إلى جباية منتظمة، والتصرف على أساس سياسة اقتراض مدروسة ومراقبة المؤسسات في البلد، كل ذلك لا يتحقق ولا يطمئن المواطن إلا إذا كان الوزير من الطائفة السُنية الكريمة! هذا أبرز عيب تفرّعت منه عيوب كثيرة، والدلائل هي في التجارب. كم من وزير جاء إلى الحقائب السيادية المذكورة بعد معارك على حصص الطوائف، فانتهى الأمر بتعيين أشخاص لم يكرموا طائفتهم ومسؤوليهم، ولم ينتجوا شيئاً، ولم يحققوا شيئاً من آمال الناس؟ مع الاحترام والتقدير لمعظم من تسلم المسؤولية. وكم من وزير تسلم وزارات أخرى من الطوائف الكريمة نفسها المذكورة والمحصورة بها "السياديات" أو من طوائف ثانية، وزارات تعتبر عادية، فأنتجوا ولمعوا وبرعوا وخدموا الناس وقدموا نموذجاً عن الخدمة العامة، وأكدوا مبدأ المراقبة والمحاسبة، ولم يمارسوا الاستنساب أو المذهبية أو الحزبية أو الطائفية في وزاراتهم فأكرموا من عينّهم زعيماً كان أم طائفة أم حزباً أم رئيساً، وأكرموا الوزارة، والخدمة العامة والناس ولبنان وكل اللبنانيين وكانوا مثالاً وتقدموا في حضورهم وممارساتهم على غيرهم من وزراء السياديات؟ في النظام القديم، الذي كان يسمّى نظام المارونية السياسية أو نظام الامتيازات، كانت الطوائف الصغرى تمثل في الوزارات الكبرى التي تسمّى سيادية. حصل التغيير، والمفترض أن يكون إلى الأفضل فيصّر البعض في لبنان على العودة إلى الوراء واحتكار الوزارات والسلطات والمؤسسات لتحويلها للأسف إلى محميات – في معظم الأحيان – أو مؤسسات خدمة لهذا الفريق أو ذاك، كأن أبناء الفريق الآخر ليسوا لبنانيين والوزارات ليست لهم ولا تدير شؤونهم. وفي الأساس أيضاً، بعد الوزارات السيادية تأتي وزارات الخدمات. خدمات من؟ بالتأكيد خدمات الفريق الذي ينتمي إليه الوزير. وهذا يعني أن الوزارات السيادية هي لطائفة أو حزب أو زعيم الوزير بهذا المفهوم، وكذلك وزارات الخدمات. فأي لبنان يقوم؟ هل المستشفى يدخل إليها مواطن من طائفة، ولا يأتيها مواطن من طائفة أخرى؟ وبعبارة أخرى، هل الضمان الاجتماعي يعنى بشؤون أبناء فريق دون آخر؟ وهل الطرقات يسلكها مواطنون لبنانيون من هذا اللون ويحيد عنها مواطنون آخرون؟ وهل هي ضرورة للكل أم لا؟ هل الفساد مرض يؤذي فريقاً دون آخر؟ ويدفع ثمنه فريق دون آخر، وهل الغلاء يعاني منه فريق دون آخر؟ وهل البطالة مشكلة فريق دون آخر؟ وهل القلق يخيم على فريق دون آخر في الموضوع الاقتصادي الاجتماعي؟ وهل فاتورة الكهرباء وانقطاعها الدائم مشكلة لفريق دون آخر؟ وهل المياه والحاجة إليها، وغيابها، معاناة فريق دون آخر؟ وهل الهجرة تطاول أبناء فريق دون آخر؟ وهل أزمة السكن والإيجار يعاني منها شباب فريق دون آخر؟ وهل المشكل الاقتصادي اليوم، تعلو الصرخة منه في أوساط فريق دون آخر؟ وهل مشكلة النفايات محصورة في بيئة دون أخرى؟ وهل الطائفية والتمييز بين الناس مرض يصيب فريقاً دون آخر، ويحرم مواطناً ولا يحرم آخر؟ وهل إسرائيل هي عدو فريق وليست عدواً لفريق آخر؟ وهل مشاكل المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية والمعلمين والأساتذة والطلاب والشباب محصورة في بيئة معينة؟ كل الهموم واحدة ويجب أن تكون الاهتمامات واحدة. وهذا ما لا نراه على المستوى السياسي أو الشعبي أو النقابي أو الطلابي والشبابي وهذا مصدر قلق كبير على الأيام المقبلة. في هذا المعنى، المطلوب رجال دولة يعبرون إلى الدولة من كل الطوائف، وإلى كل الوزارات ليعبروا بها إلى كل لبنان وكل اللبنانيين. لا أرى الحكومة المنوي تشكيلها، فهي ولم تولد بعد وفق الأسس المعتمدة لتشكيلها للأسف... تمنيت الولادة السليمة للحكومة، "الخلقة الكاملة"، فسمعت رئيس المجلس النيابي يحذّر من صلاة الميت...اللهم احم لبنان وأنر عقول بنيه وثبت إرادتهم على الخير.