لا يزال متبقياً أمام سلسلة الثورات التي هبت رياحها في العالم العربي خلال الشهرين الماضيين، أن تستكمل هدمها لما ظل منذ الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، نظاماً سياسياً ثابتاً، وإن كان قمعياً، في الدول الإسلامية، يعمل تحت إشراف الغرب. كان أصدقاء الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال تلك الفترة هم ملك إيران وقادة الدول العربية، بمن فيهم رئيسا مصر الأخيرين (السادات مبارك)، وصدام حسين في العراق، وبن علي الذي كان رئيساً مدى الحياة في تونس، ورؤساء الوزارات والجنرالات المتعاقبين في باكستان وغيرهم. أين ذهب هؤلاء القادة الآن؟ أو بالأحرى كيف سيكون خلفاؤهم في الغد؟ وهل ستستطيع الولايات المتحدة إبقاء نفوذها على الحكومات العربية القادمة؟ إن الأحداث المندلعة منذ يناير الماضي، قضت على وضع الولايات المتحدة كحليف جيوبوليتيكي راع ومسيطر على شؤون المنطقة، والسبب أن "ربات التاريخ" (في الميثولوجيا الإغريقية بالطبع) يردن تقديم درس يتعلم منه كل منه يهمه الأمر! وقد تزامنت تلك الأحداث مع إصرار إسرائيل العنيد على التوسع الاستيطاني، وتمسكها بفكرة أن "العرب لا يفهمون سوى لغة القوة"... كما تزامنت مع الخطة التي يتبناها الفلسطينيون حالياً لمطالبة الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية كدولة تحت الاحتلال الأجنبي، وهي خطة تهدف لتقويض ما ظنه الزعماء الإسرائيليون "أمناً غير قابل للاختراق" يوفره نفوذهم على الكونجرس الأميركي، وعلى الرؤساء الأميركيين المتعاقبين. لا أعرف مدى إلمام أوباما، أو قائد "الناتو"، بالشعر الإنجليزي الكلاسيكي... لكني رغم ذلك سأستعير الأبيات التالية من إحدى قصائد "شيلي" التي يبدؤها بالقول: "اسمي أوزيماندياس ملك الملوك. انظر إلى أعمالي، أيها القوي واليائس"، ثم ينهيها بالقول: "لا شيء هناك بجانب الأطلال؛ ولا من حول العفن. ومن بين ذلك الحطام العظيم، اللانهائي والأجرد. لا شيء باق سوى الرمال التي تمتد إلى البعيد... إلى البعيد". "الناتو" لم يدَّع أنه قد وصل إلى مرتبة "أوزيماندس" الذي يتحدث بهذه الأبيات، لكنه لا يمكن أن يُرى الآن كوكيل فعال للسياسة الأميركية الخارجية في المنطقة، ولا للأمن الأوروبي أيضاً، مثلما كان حاله منذ عام 1949. فهذا الحلف أثبت في حالات عملية عديدة أنه عندما يفتقد التوجيه الأميركي الفاعل، فإنه يغدو حلفاً مفتقراً للقدرة على صياغة سياسة مستقلة خاصة به، أو للقدرة على صياغة آلية لاتخاذ القرارات، أو لتنفيذ العمليات العسكرية بكفاءة. وفي العملية الليبية، تحول الناتو إلى أداة "مرتجلة" لدولتين أوروبيتين عضوين، فرنسا وانجلترا، أبدتا استعداداً للقتال في البداية. وفي النهاية، ازداد عدد الراغبين في القتال من أعضاء الناتو إلى 14 دولة زائداً بعض الدول الأخرى. ومن بين الـ17 قوة جوية الفاعلة (مع الولايات المتحدة في الخلفية) لم تقم سوى ست قوات فقط حتى نهاية الأسبوع الماضي بتوجيه ضربات ضد حملة القذافي الرامية للقضاء على المعارضة. وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا فقط هي الدول التي تنوي إرسال ضباط مدربين لمعاونة الثوار الليبيين، وهو أداء لا يمكن اعتباره عرضاً مبهراً للناتو، علاوة على أنه لم يحقق نتائج حتى الآن. وفي التاسع عشر من إبريل الحالي، قال "الفارو دو فاسكونسيلوس"، رئيس المعهد الأوروبي للدراسات الأمنية، إن إنقاذ مصراتة من الحصار الذي يفرضه عليها القذافي، سوف يؤدي إلى إطالة أمد فترة بقاء النظام، بمعنى أن نهايته لن تكون قريبة كما توقع البعض. ومما قاله الرجل أيضا: "إذا ما تمكنا من التحريض على انتفاضة ضد القذافي في طرابلس، فسوف نجبره على السعى لطلب الحل السياسي". وفيما يتعلق بالمسعى الأميركي لإيجاد ملاذ أفريقي للزعيم الليبي، قال فاسكونسيلوس: "إن الحل السياسي القائم على تولي عضو من عشيرة القذافي قيادة البلاد يمثل خياراً غير واقعي". والحقيقة أن تعليق هذا المسؤول الأوروبي يظهر الدرجة التي تختلف بها المواقف الأميركية والغربية بشأن ما يحدث في ليبيا، وبشأن ما يتعين عمله فيها. فأعضاء الناتو لهم مصالح استراتيجية قد تختلف اختلافاً كبيراً في بعض الحالات. وبالنسبة لليبيا نجد أن بعضهم يريد أن يقاتل، وبعضهم لا يريد ذلك... وبعضهم يريد المشاركة في دفع التكاليف، وبعضهم لا يرغب في ذلك. فهم ليسوا على استعداد لخوض حرب بالنيابة عن قوم آخرين وغير مهتمين بتأسيس ديمقراطيات الآخرين. أما الجمهور في بلدان الناتو فلم ير فيما حدث في العراق وأفغانستان شيئاً يدعوه للاعتقاد بأن ما يبذل في ليبيا حالياً هو جهد نافع سوف قد ينتهي بالنجاح أخيراً. والخلاصة أن الشيء الذي يجب أن تكون كل دولة قد تعلمته من تجارب العراق وأفغانستان وباكستان، هو أن تعتني بأمورها الخاصة. وذلك تحديداً ما فعله المصريون، والتونسيون، والسوريون، وما يحاول فعله الآن الليبيون، واليمنيون، وأيضاً الفلسطينيون. ويمكن لأميركا أن تجرب هذا الخيار، وتتخلي عن محاولاتها الرامية لفرض هيمنتها على العالم. ولنتخيل جميعاً في نهاية المطاف، ما هي الأشياء الجيدة التي كان يمكن أن تتحقق من خلال ميزانية أميركية تستثمر في الداخل بدلا من الاستثمار في خوض حروب تتكلف تريليونات الدولارات في الخارج. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع "تربيون ميديا سيرفس"