اشتهر المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما بنظرية نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية الغربية، هذه النظرية التي أخذ عليها كثير من النقاد وقوعها في فخ الحتمية. واليوم يعود المفكر ذاته في كتابه الجديد، "أصول النظام السياسي... من عصور ما قبل الإنسان إلى الثورة الفرنسية"، لتعقب أطوار ومراحل تقدم مؤسسات الدولة والنظام السياسي نحو ما هي عليه اليوم، موضحاً الشروط التاريخية والاجتماعية التي قادت إلى ظهور الدولة الحديثة. وفي تعقبه لتطور الدولة عبر العصور، يطرح فوكوياما فكرته الأساسية المتمثلة في أسبقية الأفكار والوضع الاجتماعي على البنية الاقتصادية في تحديد وصوغ ملامح الدولة الحديثة، فخلافاً للتفسيرات الماركسية التي جعلت من القاطرة الاقتصادية المحرك الأساسي للتطور والدافع الأول لحركة التاريخ، يرفض الكاتب الإذعان لهذا التصور بتبنيه منهجاً تاريخياً يُرجع من خلاله تطور الدولة والنظام السياسي إلى شروط تاريخية واجتماعية وثقافية كان لها الأثر الفاعل في حسم الصراع لصالح الدولة الديمقراطية. كما يرفض أيضاً نظرية الحقوق الطبيعية للوك وروسو القائلين بأن التطور البشري هو مجرد امتداد للحقوق الطبيعية، وعلى رأسها الحرية الفردية والسياسية والاقتصادية كما ظهرت في أوروبا أولاً ثم في باقي العالم ثانياً. فحسب فوكوياما، لا يمكن إنكار الأسس التي قامت عليها الدولة باعتبارها أفكاراً مستقلة بذاتها تفاعلت مع المحيط في سياقها التاريخي دون أن تصبح نتيجة لها. ويرى فوكوياما أن للنظام السياسي الحديث ثلاث مكونات رئيسية؛ أولها الدولة القوية القادرة على فرض سلطتها، وثانيها سيادة القانون الذي يعلو فوق الدولة نفسها، ثم المحاسبة التي تخضع لها الدولة من قبل المواطنين. هذا الثلاثي الذي يشكل ركيزة النظام السياسي المعاصر، تبلورَ لأول مرة في القرن الثامن عشر كحزمة واحدة في بريطانيا، دون أن يعني ذلك أن الحضارات السابقة لم تشهد أحد تلك المكونات، في افتراق واضح عن أطروحة الحتمية التي كان فوكوياما يعلي فيها من قدر الفكر الغربي على سواه. وفي هذا الصدد يقول: "طورت الصين دولة قوية قبل ظهورها في أوروبا، كما أن سيادة القانون كان معمولاً بها في الهند والشرق الأوسط، أما مبدأ المحاسبة فظهر أول ما ظهر في بريطانيا". وعلى مدار الكتاب يناقش المؤلف كيف تطورت تلك المبادئ الثلاثة منفصلة في المجتمعات المختلفة قبل أن تجتمع في بريطانيا خلال القرن الثامن عشر. ولتجنب الانتقادات التي وُجهت له في كتابه الأول عن نهاية التاريخ، حاول فوكوياما التخلي عن الحتمية التاريخية، معترفاً بأن أصل المؤسسات السياسية الراهنة "معقد ومرتبط بسياقات محددة". فمثلاً كان لانهيار نظام العائلات الكبرى في أوروبا الحديثة والناتج عن سيطرة الكنيسة خلال القرون الوسطى، تأثير مهم في "ظهور الاقتصاد الرأسمالي في إيطاليا وإنجلترا وهولندا خلال القرن السادس عشر، إذ لم تكن الطبقة الجديدة بحاجة إلى التصادم مع العشائر والعائلات الكبيرة التي عادة ما تدافع عن مصالحها بشراسة". هذا ويسجل الكاتب أيضاً رفضه الصريح للتفسيرات الاختزالية لنشوء مؤسسات الدولة الحديثة وتطورها، تلك التفسيرات التي تُرجع التحولات الاجتماعية والسياسية إلى عوامل اقتصادية وتكنولوجية. وبسبب هذا الموقف يجد الكاتب نفسه مختلفاً مع أنصار النموذج الاقتصادي في العلوم الاجتماعية، بل يميل أكثر إلى تقاليد فكرية ترجع إلى القرن التاسع عشر وإلى العدة السوسيولوجية التي طورها ماكس فيبر ودوركايم وماركس وهيجل. وانطلاقاً من هذا التقليد الفكري والفلسفي يرى فوكوياما أن السياسة هي نتاج التاريخ والتطور، مبتعداً عن إطلاقية لوك حول نظرية الحقوق الطبيعية وأصولية السوق. وبدلاً من ليبرالية "فرديريك هايك" الذي ينظر إلى الإنسان ككائن اقتصادي، يرى فوكوياما أن وجود الدولة القوية كان دائماً شرط انتعاش النظام الرأسمالي. وفي الأخير يلخص رؤيته الاجتماعية والتاريخية لتطور الدولة والسياسية بالقول: "لا توجد حالة إنسانية قط قبل الحالة الاجتماعية، ففكرة ظهور الناس كأفراد معزولين تفاعلوا مع بعضهم عبر الفوضى والعنف كما يعتقد هوبز، أو من خلال الجهل المسالم كما يذهب روسو، ليست صحيحة". زهير الكساب ------ الكتاب: أصول النظام السياسي... من عصور ما قبل الإنسان إلى الثورة الفرنسية المؤلف: فرانسيس فوكوياما الناشر: فرار، ستروس أند جيرو تاريخ النشر: 2011