في السابع عشر من شهر أبريل الجاري حذرت الوكالة الائتمانية، "ستاندارد أند بور" من أنه ما لم تعمل إدارة أوباما والكونجرس الأميركي على حل مشكلة الدين العام المتفاقم على المدى البعيد، فستواجه الولايات المتحدة احتمال خفض درجتها الائتمانية من A مضاعفة ثلاث مرات التي احتلتها منذ عام 1941 إلى ما دون ذلك. والحقيقة أن هذا التحذير يأتي في وقت تشهد فيه واشنطن نقاشاً محتدماً حول أفضل السبل وأنجعها لخفض الموازنة الفدرالية، لأنه في غياب مراجعة شاملة ومستعجلة للنفقات الحكومية على ما يسمى "برامج الاستحقاقات"، مثل الرعاية الطبية وبرامج التغطية الاجتماعية التي تتعدد مسمياتها ويستفيد منها ملايين الأميركيين، فإن البلاد مهددة بخطر الإفلاس التام. فتكاليف الرعاية الصحية ترتفع على نحو يفوق بكثير مداخيل الضرائب التي تغطي الكلفة وتضمن استمرار البرنامج، والسبب في ذلك حسب الخبراء يرجع إلى مجموعة من العوامل على رأسها التحسن الكبير في الوسائل التكنولوجية المستخدمة لأغراض طبية والمعتمدة في علاج الأمراض، ما يرفع من تكلفة الاستشفاء، فضلاً عن التقدم في أعمار الأميركيين، وظهور شريحة متزايدة من كبار السن ممن يستوجبون رعاية خاصة، دون أن ننسى سوء الإدارة الذي يميز القطاع الصحي، وتفشي الفساد في النظام برمته. ومع أن الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، يتفقان معاً على ضرورة التدخل لوقف النزيف الحاد الذي تسببه الرعاية الصحية والبدء في إصلاحات عاجلة، فمازال هناك تردد في إصلاح النظام الصحي خوفاً من الكلفة السياسية والضريبة الانتخابية التي سيدفعها الطرف المصمم على الإصلاح. والأمر لا يقتصر فقط على النظام الصحي الذي يستنزف موارد طائلة تعمق العجز الكبير في الموازنة، ويرهن مستقبل البلاد لمزيد من الديون، بل يمتد التردد الحزبي إلى موازنة الدفاع، فالولايات المتحدة تنفق ست مرات أكثر من الصين التي تعتبر الخصم الموالي في الإنفاق العسكري على الصعيد الدولي، حيث جاء الترتيب العالمي لموازنات الدفاع بتصدر الولايات المتحدة للقائمة بمبلغ وصل إلى 687 مليار دولار في السنة متبوعة بالصين بحوالي 114 مليار دولار في السنة، ثم فرنسا بنحو 61 مليار دولار، والمملكة المتحدة بـ57 مليار دولار، وتالياً روسيا التي تنفق 52 مليار دولار سنوياً. وبالنظر إلى ضرورة ضبط نفقات الدولة، فإنه لا مناص من مراجعة موازنة الدفاع لجهة تخفيضها أولاً، وإعادة النظر في ألوياتها ثانياً، فعلى سبيل المثال كان للحروب المتعددة التي خاضتها أميركا على مدى الإحدى عشرة سنة الأخيرة، في أفغانستان والعراق وباكستان وحاليا في ليبياً، أثر كبير في إنهاك العتاد العسكري الأميركي، لاسيما الدبابات والطائرات، لذا لابد من إعادة تجديد الآليات العسكرية، وهو ما سيستغرق سنوات عديدة للانتهاء منه وكلفة إضافية تصل مئات الملايين من الدولارات. ولا ننسى كلفة الرعاية الصحية للجنود الذين شاركوا في الحروب وأصيبوا بجروح تستدعي متابعة طبية متواصلة. ولهذه الأسباب جميعاً يتعين على الولايات المتحدة إعادة تقييم التزاماتها الدولية في المجال العسكري، لجهة تخفيض تلك الالتزامات، وتقليص تدخلاتها الخارجية. لكن من أين تبدأ الولايات المتحدة وهي التي تمتلك قواعد عسكرية في جميع مناطق العالم تقريباً؟ ففي شرق آسيا تحتفظ أميركا بقواعد برية وجوية وبحرية في كل من كوريا الجنوبية واليابان وبعض الجزر في المحيط الهادي، ومع أن بلدان آسيا غنية بما يكفي لتطوير سلاحها والدفاع عن نفسها، إلا أنه في ظل بقاء النظام في كوريا الشمالية واستمرار خطره على المنطقة، ستواجه واشنطن ضغوطاً متواصلة لإبقاء التزامها العسكري اتجاه المنطقة وعدم الانسحاب المتعجل منها. وعلى غرار منطقة شرق آسيا يظل الشرق الأوسط حافلاً بالأخطار وعدم الاستقرار، لاسيما في العراق وأفغانستان وباكستان، وما لم تتحسن الأوضاع هناك وتتضح الرؤية، فمن غير المتوقع أن تغير الولايات المتحدة سياساتها وتسحب جنودها. كما أنه بالنظر إلى الثورات العربية واستمرار البرنامج النووي الإيراني الذي قد يتحول إلى برنامج تسلحي، والعلاقة الأميركية الاستثنائية مع إسرائيل... ستجد أميركا نفسها مضطرة للبقاء في المنطقة والاستمرار في تحمل مسؤولياتها، ولن يوافق الكونجرس على أي قرار بإنهاء الالتزام الأميركي في الشرق الأوسط، لاسيما إذا تأكد أن إسرائيل قد تواجه مصاعب بعد الثورات التي اجتاحت المنطقة. وفي أوروبا الغربية مازالت أميركا تحتفظ بحضور عسكري مهم، وهو ما تأكدت أهميته في ظل الهجمات الأخيرة على ليبيا ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يلعب دوراً كبيراً في تأمين شواطئ أوروبا واستقرار الأمن في حوض البحر الأبيض المتوسط. وبالنظر إلى العلاقات الوثيقة التي تجمع أوروبا بالولايات المتحدة، واشتركهما معاً في هياكل حلف الناتو، فإنه من غير المرجح أن تنسحب أميركا في أي وقت قريب من دورها داخل أوروبا. لكن رغم التواجد الأميركي المنتشر على نطاق واسع، تسعى واشنطن حالياً إلى فك ارتباطها مع بعض دول أوروبا الشرقية، مثل أوكرانيا وجورجيا الواقعة على مقربة من روسيا، نتيجة لما يسببه ذلك من حساسيات بالغة تُذكر بالحرب البادرة، وهو الأمر الذي لن يروق كثيراً لتلك الدول الطامحة للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والاستفادة من المظلة الأميركية. ويبقى التحدي الأكبر أمام الالتزامات الأميركية في الخارج هو الأطراف السياسية الداخلية، سواء على جهة اليسار أو اليمين، ممن يصرون على لجم الإنفاق الفيدرالي على الدفاع مطالبين بتقليص الدور الأميركي في الساحة الدولية والكف عن لعب دور الشرطي العالمي، لاسيما بعد الأزمة الاقتصادية التي تفرض الاهتمام بالقضايا الداخلية وإعادة تأهيل المجتمع الأميركي الذي عانى كثيراً من تبعات الركود الاقتصادي وتقلص الوظائف، ومن المتوقع أن يحتد النقاش السياسي أكثر حول الدين العام ومسائل الموازنة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية لعام 2012، واستمرار الصراع في أفغانستان وليبيا وعدم استقرار العراق وباكستان، فيما توصل إيران تطلعاتها لحيازة القدرات النووية!