قبل سنوات من وفاته، كتب الشاعر العربي نزار قباني قصيدة على لسان حاكم عربي، ولكأن الشاعر قد استبق الأحداث الجارية منذ بداية العام الجاري في عدد من البلدان العربية التي حُكمتْ بالأجهزة الأمنية، والتي لم تفلح مؤسسات المجتمع المدني فيها - بما في ذلك المساجد والكنائس ومجالس الشعب والجامعات- في أن تقلل أو تحد من تغول هذه الأجهزة أو من الطبيعة الاستبدادية لتلك النظم عامة إزاء شعوبها؛ ليس عبر تبديد أموال الأوطان فحسب، ولكن أيضاً من خلال كبت الحريات ومنح العطايا والأراضي والمؤسسات الوهمية التي خلقت "قططاً سماناً" في العديد من البلدان العربية. كما أن تلك الأنظمة ظلت لأكثر من ثلاثين عاماً تخالف المواثيق الدولية دون أن يتعرض لها أحد، ودون أن تتحرك المؤسسات الحقوقية العالمية لوقف النزيف الذي ظل يعاني منه الشعب في ظل الحاكم الأوحد وزبانيته من الأمن والحزب. القصيدة وصلتني عبر البريد الإليكتروني الأسبوع الماضي، يقول فيها نزار قباني: "كلما فكرت أن أعتزل السلطة.. ينهاني ضميري! مَن تُرى يحكم بعدي هؤلاء الطيبين؟ مَن سيشفي بعدي الأعرج.. والأبرص.. والأعمى ومَن يحيي عظام الميتين؟ مَن تُرى يخرُجُ من معطفه ضوء القمر؟ مَن تُرى يرسل للناس المطر؟ مَن تُرى يجلدهم تسعين جلدة؟ مَن تُرى يصلبهم فوق الشجر؟ مَن تُرى يرغمهم أن يعيشوا كالبقر؟ ويموتوا كالبقر؟ كلما فكرت أن أتركهم.. فاضت دموعي كغمامة.. وتوكلت على الله.. وقررت أن أركب الشعب.. من الآن إلى يوم القيامة". وإذا ما تمعنا في القصيدة لوجدناها ترسم لوحة واقعية لحال الشعوب التي طالبت بتغيّر النظام، وبرحيل الرؤساء! وهكذا فقد لمس الشاعر جراح الشعوب قبل سنوات من الثورات الحالية. فالزعيم -من الذين زالوا ومن الذين في الطريق إلى الزوال- يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الشعب يحبه كل الحب وإلى درجة "الموت"، وأن الشعب يرحب بكل إجراء أو تصرف يقوم به القائد حتى لو أراد قطع لسانه، أو سلب حقه في الحياة أو الاستيلاء على حقه في المواطنة. والحاكم يعتقد أن التأليه الذي يقوم به الإعلام الفاسد، والذي تديره طغمة من أتباعه والمستفيدين من حكمه، هو من نبض الشعب ومن حبه، وهو من الدم الذي يعيش داخل قلوب أفراده! والحاكم يتصور أيضاً أنه كلما ضرب الشعب "على قفاه" سوف يزداد حباً له، وأن ضميره ينهاه أن يترك هذا الشعب الطيب لحاكم مستبد غيره! ولكأن الشعب قد استمرأ حالة الخنوع والخوف وطأطأة الرأس، حتى غدت تلك "السجايا" من مواصفات المواطن الصالح في ظل "حكم رشيد"! وقصيدة نزار أعلاه تحمل "نبوءة" أو قراءة للمستقبل أكدتها أحداث الحاضر؛ فبعض الرؤساء قرروا البقاء في مناصبهم حتى الوفاة، وبعضهم خطط لأن يورث الحكم لأبنائه (وهم في ظل حكم جمهوري ديمقراطي)! وخلال ثلاثين أو أربعين عاماً تكونت الصورة "النهائية" في تلك البلدان، والتي يمكن رسم ملامحها ضمن هذه اللوحة: قائد يعيش في قصره مع ملذاته وهواتفه- الحمراء والخضراء والسوداء - ومع عائلته التي لا يرى غيرها، رغم أنه في خطاباته يقول إن الشعب كله عائلته! ووزراء لا يهتم الحاكم إلا لوزيرين أو ثلاثة! أما وزراء شؤون الشعب، مثل: المواصلات، والتموين، والزراعة، والصناعة، والتعليم، والصحة، والقوى العاملة، والدفاع، والخارجية، فلا يهتم بهم الرئيس القائد، ولا يود أن يرى وجوههم يومياً! لأنهم لا يساهمون في الضغط على الشعب لإلزامه بحب الرئيس والخوف منه! كما أنهم لا يفتحون أمامه الخزائن كي يأخذ منها ما يشاء ويوزعه على من يشاء (بغير حساب)! كما أنهم لا يلمعون صورته، ولا يسخرون المذيعين والصحافيين لإبراز "مناقبه" الفريدة وحبه الوفير لشعبه. كما أن هؤلاء الوزراء -غير المجتبين- لا يداهمون منازل الآمنين، ولا يقيمون دورات لمتخصصين يتعلمون خلالها كيف يتم تعذيب السجناء، وسجناء الرأي خاصة، ولا يرهبون الشعب بقانون الطوارئ، ولا يقنعونه بأن الحاكم يراقب دبيب النملة في الليلة الظلماء! ومن جانب آخر، فإن بيانات مجلس الشعب أو البرلمان أو اللجان الشعبية... كلها تصاغ من وحي الحاكم، وهو الذي يقول كلمته قبل أي كلمة للشعب، ولا يرى أن شوارع البلاد تفيض فيها "بالوعات" القذارة، وهو الذي لا يوفر للأطفال الأمصال ضد الأمراض، ويخطط لأن يكون التعليم في أرذل مراحله! وهو الذي يزج بملايين العاطلين عن العمل للانخراط في ترويج المخدرات أو قتل السياح أو الانضمام للجماعات التي تعيث فساداً في بيوت الناس ومساجدهم وكنائسهم! وهو الذي يمنح أوسمة "الشرف" ويمنح قيود الذل، وهو الذي يعتلي المنابر بخطب رنانة حول تطوير الاقتصاد، ويحلف -في المقابلات التلفزيونية- أنه لم يسع للحكم بل اختاره الشعب، وهو في واقع الأمر يجلس على الكرسي عقوداً، ويقول في كل مقابلة أو خطبة بأنه لن يترك بلده لـ"البلطجية" لأنها مسؤوليته أمام الله والشعب! وواقع الأمر أنه ترك البلد خلال عقود طويلة بأيدي "بلطجية" يلبسون الكرافاتات والبدلات الأنيقة، ويفرشون منازلهم بالسجاد الفاخر. هذه هي اللوحة التي لا تختلف عما تصوره الشاعر العربي عن حال وتفكير بعض الحكام العرب الذين نراهم اليوم يرحلون مُكرهين غير طائعين، وتسقط وزاراتهم العتية، ويتخلى عنهم "القادة" في الجهات الأمنية والعسكرية، ويحاصرهم العالم المتمدن. إنها مرحلة من عصر العالم العربي تستحق الدراسة والتأمل، ولعل المستقبل القريب يأتي بمفاجآت أكبر.