تحدثنا سابقاً عن الثورة وتحديات التغيير الشامل (مقال 14 أبريل 2001)، وقلنا إن الهدف الاستراتيجي للثورة باعتبارها ثورة ديمقراطية هو السعي إلى تحقيق الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية في ظل دولة حديثة. وقررنا أن الدولة الحديثة لابد أن تكون دولة علمانية تفصل بوضوح بين الدين والدولة، بحيث تقوم على التشريع وليس على الفتوى، ولا تتيح أدنى فرصة لرجال الدين كي يهيمنوا على مقدرات التطور الاجتماعي من خلال تأويلاتهم الصحيحة أو المشوهة للنصوص الدينية. والعلمانية -على عكس ما يشيع تيار الإسلام السياسي- تحترم الأديان كافة، وتتيح الفرصة لأتباع كل دين أن يمارسوا طقوسهم كما يشاؤون في ظل الدستور والقانون. وأضفنا أن العلمانية لا تعني إطلاقا فصل الدين عن المجتمع، لأن الدين يتخلل أنسجة المجتمعات الإنسانية، وإنما هي كمذهب سياسي تحرص على الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية. هل هناك وضوح أكثر من ذلك في تعريف العلمانية، والإقرار بضرورة فصل الدين عن السياسة، وليس فصل الدين عن المجتمع؟ ومع ذلك ثار عديد من القراء الذين علقوا على مقالي الماضي على شبكة الإنترنت، واعتبروا العلمانية وكأنها ضرب من ضروب الكفر، موجهين الانتقادات اللاذعة لي بطريقة تجاوزت أحيانا آداب الحوار، وأخلاقيات الإسلام في الاختلاف! والواقع أن تيارات الإسلام السياسي جميعاً وعلى اختلاف منطلقاتها وأشكالها التنظيمية، تدعو صراحة أو ضمناً إلى إقامة الدولة الدينية على أنقاض الدولة العربية العلمانية الراهنة. لا فرق في ذلك بين "الإخوان المسلمين" و"الجماعة الإسلامية" و"جماعة الجهاد"، وأخيراً "الحركة السلفية" التي برزت في المشهد المصري خلال السنوات الأخيرة. وقد اتبع "الإخوان" على وجه الخصوص في العقود الأخيرة استراتيجية الخفاء، بمعنى التصريح بأنهم من أنصار الدولة المدنية التي تقوم على سيادة القانون وتداول السلطة السياسية، وذلك حتى ينالوا القبول العام من المجتمع الذي يسعى إلى تحقيق الديمقراطية، ومن قبل التيارات الليبرالية. وقد نجح خطاب "الإخوان" في إقناع عدد من الأحزاب الليبرالية بأنهم أخيراً قبلوا بالديمقراطية والتعددية، مما يبرر التعاون معهم بل وانتقاد إقصائهم عن العمل السياسي. كل ذلك مع أنهم مارسوا السياسة فعلياً، والدليل على ذلك أنهم في مجلس الشعب قبل المجلس السابق المزور، نجح لهم 88 عضواً أصبحوا أعضاء في البرلمان، رغم أنهم لم يتركوا أي بصمة سياسية في أدائهم البرلماني. غير أننا منذ أوائل التسعينيات قررنا أن خطاب "الإخوان المسلمين" الذي ينص على قبول الدولة المدنية خطاب خادع، لأن المشروع الاستراتيجي لكل تيارات الإسلام السياسي بلا استثناء هو إقامة الدولة الدينية! ووجهت لي انتقادات متعددة من قبل أنصار الإسلام السياسي على أساس عدم موضوعيتي في النقد، وعدم تصديقي لتصريحاتهم العلنية. وتشاء الظروف وخصوصاً بعد ثورة 25 يناير المجيدة، ومحاولات "الإخوان المسلمين" الالتفاف حولها بكل الطرق وخصوصاً في الظهور الإعلامي المتكرر مع شباب الثورة وكأنهم كانوا جزءاً منها وإن كان هذا غير صحيح، أن يكشفوا عن وجههم النقاب الخادع ويظهرون الحقيقة التي أكدنا عليها عدة مرات. وبيان ذلك أن جريدة "المصري اليوم" انفردت في عددها الصادر في 16 أبريل 2011 بنشر موضوع على الصفحة الأولى عنوانه المثير "الإخوان: نسعى لإقامة الحكم الإسلامي وتطبيق الحدود بعد امتلاك الأرض". وجاء في تفصيل الخبر أن جماعة "الإخوان المسلمين" عقدت في "إمبابة" مؤتمراً حاشداً تحت عنوان "من نحن وماذا نريد". وقد صرح الدكتور محمود عزت، نائب المرشد العام بأن الجماعة "لن تدير "حزب الحرية والعدالة"، فهو منفصل عنها، وله قياداته الخاصة، لكنه مشترك مع الجماعة في نفس الأهداف والسياسة الاستراتيجية، ويميزه عن باقي الأحزاب أنه يمارس السياسة لكن على أساس أخلاق الإسلام. وحول موقف "الإخوان" من تطبيق الحدود أكد أن هذا الأمر يأتي بعد امتلاك الأرض، لأنه لابد أن تقام الحدود بعد أن يكون الإسلام في حياة الناس وأخلاقهم ومعاملاتهم". وهكذا كشف نائب المرشد عن حقيقة المشروع الإخواني، وهو إقامة دولة دينية إسلامية تطبق الحدود. وأكد ذلك المهندس سعد الحسيني عضو مكتب الإرشاد الذي نادى على كل التيارات الإسلامية قائلاً: "يا سلفيين، ويا صوفيين، ويا أنصار سنة... لا نوم بعد اليوم حتى نمكن هذا الدين في البلد العظيم، فلا تضيعوا علينا هذه الفرصة العظيمة، وعلينا أن نعلم أن فرصتنا ليست في الانتشار السياسي بل في نشر الإسلام في المساجد والمصانع والجامعات". وقد أثارت هذه التصريحات كما قررت جريدة "المصري اليوم" غضب الأحزاب لأنها، كما قرر ممثل حزب "الوفد"، أزالت دعاوى "الإخوان" حول الدولة المدنية. وقد أثارت تصريحات نائب المرشد والمهندس سعد الحسيني ضجة سياسية كبرى، فقد استنكرها أعضاء بارزون من شباب "الإخوان" واعتبروها عودة لأفكار سيد قطب، كما أن بعضهم اعتبر دعوة الحسيني للتحالف مع السلفيين وأنصار السنة خطأً. وكان رد فعل شباب الثورة والقوى السياسية رفضاً كاملاً لدولة "الإخوان" المقترحة. بل إن الثوار طالبوا جماعة الإخوان باعتذار للشعب، أما الأحزاب السياسية فتعهدت بالرد في الانتخابات. واللافت للنظر أنه حدث انقسام داخل الإخوان حول تصريحات الدكتور عزت والمهندس الحسيني. غير أن عزت الذي صرح بالمسكوت عنه في خطاب "الإخوان" مما كشف عن مخططاتهم السياسية الحقيقية في إقامة الدولة الدينية، شعر بالحرج فقدم بلاغاً ضد "المصري اليوم" يتهمها بالكذب، غير أن الجريدة بثت التسجيل الصوتي لتصريحات نائب المرشد على موقعها في شبكة الإنترنت. وأياً كان الأمر، وبعيداً عن زحام الوقائع والأخبار والأحداث، فأهم ما في الموضوع أنه صدق تحليلنا لخطاب "الإخوان المسلمين" والذي نشرناه في كتابنا "الكونية والأصولية وما بعد الحداثة" الصادر عام 1993 (المكتبة الأكاديمية). فقد تحدثنا عن استراتيجية الخفاء والتجلي التي يتقنها "الإخوان". وهذا الخفاء يعني التغطية على المشروع الاستراتيجي للجماعة، وهو إقامة الدولة الدينية الإسلامية على أنقاض الدولة العربية الراهنة كخطوة أولى نحو استعادة الخلافة الإسلامية. وقد قررنا أن المشروع الحقيقي للإخوان هو عدم الاعتداد بالتعددية السياسية حتى ولو قبلوها كخطوة تكتيكية، لكنهم لو تولوا السلطة فسينقضون على حرية التفكير وحرية التعبير، وسيتبنون منظوراً مغلقاً في المجالات الثقافية والاجتماعية. وقد تحديناهم ودعوناهم إلى أن يتقدموا ببيان عناصر مشرعهم الذي يدعون إليه في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي. وها قد سقطت استراتيجية الخفاء بعد تصريحات زعماء "الإخوان" الأخيرة وتجلى المشروع كاملاً تطبيقاً لمبدأ الحاكمية. أي أن الحاكمية لله وليست للبشر، والدولة الدينية هي الأساس، وتطبيق الحدود أمر لازم لزوما حتمياً، كل ذلك في سياق يدعو لإهدار الاعتبارات الوطنية سعياً وراء عالمية الإسلام، المتمثلة في استعادة دولة الخلافة الإسلامية. إن المجتمع السياسي المصري مدعو لمناقشة نقدية جادة لطروحات "الإخوان المسلمين". ليس ذلك فقط ولكن لسلوك الجماعة السلفية التي هجمت مؤخراً على معاقل الفكر العقلاني في مصر. وهذا يؤكد أننا لسنا فقط بحاجة إلى ثورة ديمقراطية، ولكن أيضاً إلى ثورة ثقافية شاملة شعارها هو شعار الحداثة: "العقل هو محك الحكم على الأشياء".