أية جمهورية تلك التي انتهى حكم ثلاثة من رؤسائها الأربعة اعتقالًا واغتيالًا وحبساً فيما يتواصل الجدل منذ 41 عاما حول ما إذا كان أحدهم مات مقتولا أم مريضا؟ هذا سؤال من بين أسئلة عدة تثير اهتماما يتجاوز حدود مصر بعد أن قررت النيابة العامة فيها حبس الرئيس مبارك ونجليه اللذين كان أحدهما مرشحا لخلافته على نحو يثير سؤالا آخر عن ماهية تلك الجمهورية التي توَّرث فيها السلطة! وسواء ظل قرار حبس مبارك على ذمة التحقيق قائما حتى تقديمه إلى المحاكمة، أو قُبل الطعن فيه واستمر التحقيق معه مطلق السراح، فقد انتهى عهده نهاية لا تقل دراماتيكية عن ثلاثة رؤساء سبقوه، بل تزيد لأنه أُرغم على التنحي نتيجة ثورة شعبية زلزلت الجمهورية المصرية التي أُعلنت قبل نحو ستة عقود. فليس مبارك أول رئيس لهذه الجمهورية ينتهي عهده نهاية غير طبيعية. يعرف العالم كله كيف كانت نهاية سلفه السادات شديدة الدراماتيكية. فقد أُطلق النار عليه من داخل جيشه وفي يوم ذكرى النصر الذي كان له فضل كبير في تحقيقه (6 أكتوبر 1981). غير أن ما قد لا يكون معروفاً على نطاق واسع هو أن النهايات الدراماتيكية لازمت رؤساء هذه الجمهورية منذ البداية. لم يكن قد مضى على تولي رئيسها الأول محمد نجيب الرئاسة عدة أشهر حتى تصاعد الصراع على السلطة وبزغ نجم عبد الناصر الذي رضي بموقع الرجل الثاني مؤقتاً عقب نجاح ثورة 23 يوليو 1952. لكنه ظل يرتب الأوضاع من وراء ستار إلى أن أصبحت السلطة مركزة بين يديه. وعندها وجد الرئيس الأول للجمهورية نفسه معتقلا ذات صباح. كان ذلك بعد أن نجح عبد الناصر في تمديد فترة الحكم العسكري وإرجاء تسليم السلطة إلى المدنيين، وتمكن من حسم الأزمة التي بدأت في مارس 1954 لمصلحته، واستطاع دعم نفوذه وإضعاف القوى المطالبة باستعادة الديمقراطية وتوجيه ضربة قاصمة إلى جماعة "الإخوان المسلمين" التي اتُهمت بتدبير محاولة اغتياله في الإسكندرية في أكتوبر من العام نفسه. وعندئذ صار سهلا الإجهاز على الرئيس نجيب الذي وُضع قيد الإقامة الجبرية شكلا والاعتقال فعلا في فيلا معزولة في منطقة المرج شرق القاهرة مند نوفمبر 1954، ثم نُقل إلى شقة أخرى ظل فيها حتى وفاته عام 1984. ولم تكن تلك النهاية المؤلمة إلا فصلا أول في مسلسل اختلفت نهايات فصوله الأربعة، لكنها اتسمت كلها بطابع دراماتيكي مثير ومحزن في آن معا. ولم تكن نهاية الفصل الثاني استثناء، رغم عدم وجود دليل يثبت ما أُشيع بشأن موت عبد الناصر مسمماً على سرير المرض في سبتمبر 1970. كانت نهاية ذلك الفصل قد باتت وشيكة عقب هزيمة 1967. فقد بدأ بعدها العد التنازلي لعهد الرئيس الثاني موضوعا وشخصا أو رئيسا. على المستوى الموضوعي، أنهت تلك الهزيمة أحلاماً كبرى وخفضت مستوى التطلعات، فضلا عن أن صدمتها ساهمت بمقدار وفير في خلق موجة إحياء ديني أصولي كان لها أثر كبير في تشكيل صورة العالم العربي في العقود التالية. كما أصابت تلك الصدمة عبد الناصر في صحته البدنية في فترة حمل فيها أعباء مضاعفة سعيا إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لذلك بدا موته على سرير المرض فى 18 سبتمبر 1970 طبيعيا إلى أن بدأ الشك في ذلك، أو بالأحرى التشكيك فيه. وأخذت الرواية القائلة بأن السم هو الذى قضى على حياته، وليس مرض السكري، تشيع في أوساط طبية وإعلامية وسياسية. وفي غياب القول اليقين، باتت نهاية الفصل الثاني في الجمهورية المصرية سجالا بين روايتين. ومازال هذا السجال مستمرا ينتج نزاعات قضائية ومبارزات إعلامية ومواجهات سياسية. فقد لجأت إحدى كريمات أنور السادات إلى القضاء قبل نحو عامين مدعية على إحدى كريمتي عبد الناصر بسبب اتهام الأخيرة الرئيس الثالث للجمهورية بدس السم لوالدها كي يخلفه قبل أن يعيد النظر في تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية. كما أعاد الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل السجال في هذا الموضوع قبل أشهر قليلة عندما تحدث، على شاشة إحدى الفضائيات العربية، عن القهوة التي كان السادات يعدها بيديه لعبد الناصر. ورغم أن نهاية الفصل الثالث في الجمهورية كانت شديدة الإثارة بطابعها، حيث أغتيل السادات مرتديا بزته "المارشالية" أثناء عرض عسكري وهو وسط قواته المسلحة، فقد أضافت إحدى كريماته مزيدا من الإثارة إليها في الأيام الماضية عندما اتهمت مبارك بأنه لم يكن بعيدا عن خلفيات تلك النهاية. لكن هذا الاتهام، الذي أثيرت أسئلة هامسة بشأنه خلال عهد مبارك، قد لا يلقى اهتماما الآن في الوقت الذي ينشغل الجميع بنهاية هذا العهد. وهذه نهاية لا تقل دراماتيكية عن نهاية عهد السادات، بل تزيد لأنها ستسدل الستار على الجمهورية بفصولها كافة وليس على الفصل الرابع فيها فقط. فالمفترض هو أن تؤسس ثورة 25 يناير جمهورية جديدة، أو الجمهورية الثانية، بعد أن أقامت ثورة 23 يوليو الجمهورية الأولى التي انتهى رؤساؤها كلهم بصورة غير طبيعية. والمفترض أيضا أن يكون جديد الجمهورية الثانية قبل كل شيء هو تلافي الخطأ الذي جعل الجمهورية الأولى غير طبيعية إلى هذا الحد. والأكيد أن محنة هذه الجمهورية تعود إلى أخطاء كثيرة وليس خطأ واحد. غير أنه من بين هذه الأخطاء، كان الحكم الفردي هو الخطأ الأول الذي أسس بنية شابتها أخطاء ربما يجوز القول إنها كانت بلا حصر. فلم يكن النظام السياسي في الجمهورية المصرية الأولى رئاسيا بخلاف ما يوصف به. كان نظاما فرديا بالمعنى الحرفي. ففي النظام الرئاسي الأميركي مثلا، لا يستطيع الرئيس تعيين كبار الموظفين العموميين بدون موافقة الكونغرس. وفي النظام الرئاسي الفرنسي، يقوم رئيس الحكومة والوزراء بأدوار في صنع السياسات العامة لا تقل عن دور الرئيس، بل تزيد في كثير من الأحيان ربما باستثناء السياستين الخارجية والدفاعية. أما في النظام الفردي المسمى رئاسيا في الجمهورية المصرية الأولى، فالرئيس يمتلك سلطات لا نهائية. وما رئيس الحكومة والوزراء إلا جهاز سكرتارية يتبعه. فهم ينفذون ما يؤمرون به ويعملون "حسب تعليمات الرئيس". وعندما تُختزل أية جمهورية في رئيسها بشكل حصري على هذا النحو، فهي لا يمكن أن تكون طبيعية. وهذا هو مصدر محنتها التى تواصلت على مدى نحو ستة عقود. لذلك لم تكن النهايات الدراماتيكية لرؤسائها إلا التعبير الأكثر وضوحا عن هذه المحنة التى يتطلع المصريون الآن إلى إسدال الستار عليها.