اشتبك أوباما يوم الأربعاء الماضي، بواحدة من أكثر المسائل حساسية في السياسية الأميركية، وهي تلك المتعلقة بتخفيض العجز في الموازنة. وقدم الرئيس في كلمته خطة طريق معقولة، وإنْ لم تعتن عناية كاملة بالتفاصيل لتحقيق هذه الغاية. والآن، بعد توقف عدسات الكاميرات عن الدوران، فإن الرئيس سيبدأ في مواجهة التحديات السياسية الحقيقية المرتبطة بهذه المسألة، ذلك لأن تخفيض العجز في الموازنة سواء تم عن طريق إجراء تغيير على معدلات الفائدة، أو على برنامج الرعاية الطبية" ميدي كير" ، أو على الإنفاق العسكري، فإنه في جميع الحالات يقدم طرقاً لا حصر لها للكيفية التي يمكن للسياسيين أن يخسروا بها مناصبهم. بيد أن الجمهور الأميركي يصر، مع ذلك، على أن يتصدى قادته المنتخبون ديمقراطياً لتلك المخاطر. وفي الحقيقة أن أفراد هذا الجمهور محقون في ذلك الموقف، لأنهم يستشعرون ما بات العديد من الخبراء يعرفونه في الوقت الراهن تمام المعرفة وهو: أن زيادة الدين الفيدرالي يهدد أمن أميركا القومي على المدى الطويل. "يمكن القول دون أدنى مبالغة إن أكبر تهديد يواجه أمننا القومي هو تهديد الديون". هذا هو نص عبارة قالها الأدميرال "مايكل مولين " رئيس هيئة الأركان المشتركة العام الماضي. وكان ذلك اعترافاً صريحاً من رتبة من أكبر الرتب العسكرية في "البنتاجون"، التي تعتبر الوزارة الأكثر إنفاقاً في الولايات المتحدة، بهذه الحقيقة.على مدى العامين الماضيين، ازداد الدين الفيدرالي الأميركي من 6.9 تريليون إلى 9.7 تريليون دولار. ومن المتوقع أن يصل هذا الدين خلال السنوات العشر القادمة إلى 18 تريليون دولار وهو ما يعادل 77 في المئة من الناتج القومي الإجمالي، وهي بالمناسبة أعلى نسبة دين - إلى الناتج القومي الإجمالي منذ خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت الولايات المتحدة لا تزال تعاني من آثار الحرب العالمية الثانية وما تكبدته فيها من نفقات باهظة. وعند هذه النقطة - أي عندما يصل الدين إلى 18 تريليون دولار - فإن الإنفاق الفيدرالي من أجل سداد الفائدة الصافية المتعلقة بالدين، سوف يتجاوز الإنفاق على المؤسسة العسكرية الأميركية برمتها، وهو وضع في غاية الخطورة بطبيعة الحال. ونظرا لأن قوة الولايات المتحدة، وتميزها الاقتصادي، طالما غذيا النفوذ والقوة العسكرية الأميركية، فإن الأميركيين مطالبون هذه المرة بفهم طبيعة التهديدات التي يشكلها هذا الموقف وتداعياتها والتي يمكن إجمالها على النحو التالي: أولا، الدين الفيدرالي طويل الأمد قد يؤثر على استثماراتنا في المؤسسة العسكرية التي تحمي المصالح الأميركية وتعزز الاستقرار والسلام الدوليين. وكان موقف مماثل قد ظهر في بريطانيا في منعطف القرن العشرين، وذلك عندما ركز القادة البريطانيون على الكفاءة الوطنية، وغيرها من الموضوعات الهامشية، التي صرفت أنظارهم عن عمل التعديلات المطلوبة لتحسين الأداء الاقتصادي، وتعزيز القدرة العسكرية وإعداد الأمة لمستقبل غير مأمون. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تعاونت مع بريطانيا سعياً لإنقاذها من ذلك الموقف خلال الحرب العالمية الأولى، فإنها لا تجد من ينقذها من الوضع الحرج الذي تجد فيه نفسها في الوقت الراهن. ثانياً: إن الدين الفيدرالي المتزايد يمكن أن يجعل الولايات المتحدة أكثر تعرضاً للقسر الاقتصادي الذي يمكن أن يتخذ شكل قيام دولة أخرى باحتجاز موارد طبيعية ثمينة، أو مواد حساسة من الناحية العسكرية بسبب خلاف على سداد الدين، أو قيامها عن عمد بتخفيض مقتنياتها من الدولار الأميركي لإحداث أذى اقتصادي متعمد، أو التدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في محاولات الولايات المتحدة لتمويل دينها(أي سداده). ومن المعروف أن القادة الصينيين قد ناقشوا هذه الاستراتيجية علناً، وهو ما مثل تطوراً مزعجاً خصوصاً على ضوء أن الصين تمتلك حصة كبيرة ومتنامية من الديون الأميركية. ففي العام الماضي، ورداً على صفقة الأسلحة الأميركية لتايوان، أدلى اللواء الصيني"ليو يوان" بحديث لوسائل الإعلام الصينية التي تديرها الدولة قال فيه إن بلاده يمكن أن "تهاجم الولايات المتحدة من خلال أساليب سرية عديدة وملتوية، تشمل ضمن ما تشمل استخدام وسائل منها على سبيل المثال لا الحصر التخلص من سندات الخزينة الأميركية". ثالثا: إن تكلفة خدمة الدين قد تؤثر على عافية الاقتصاد الأميركي في الأمد الطويل ويمكن كنتيجة لذلك أن تؤدي لتآكل مكانتها وقوتها الناعمة على الساحة الدولية. وفي مثل هذه الحالة، ستكون الولايات المتحدة أقل قدرة على ممارسة نفوذ في المنابر المتعددة الدول، وأقل قدرة على الاقتراض بأسعار معقولة، وأقل قدرة على مواجهة الأزمات المالية، وأقل قدرة على إقناع القوى الصاعدة بالمزايا النسبية للرأسمالية القائمة على اقتصاد السوق. وعندما تصبح محرومة من نفوذها، فإن الولايات المتحدة سوف تجد نفسها مضطرة إلى الكفاح من أجل ضمان أمن مواطنيها وحلفائها. فمن المعروف أن الولايات المتحدة تمثل المحور الأساسي لمنظومة من التحالفات المترابطة مع بعضها تضم ما يزيد عن 60 دولة، وأنها قد قامت على نحو تدريجي ومنتظم بتقديم المزيد من الرخاء، والأمن، لشعوب تقع في شتى أنحاء العالم. إن تعزيز مركزنا المتفوق في هذه المنظومة يعتمد على التخفيف من حجم مديونيتنا الذي يمثل تهديداً حقيقياً ومتنامياً للأسس الاقتصادية للقوة الأميركية. وقادتنا مطالبون بوضع هذه الرهانات العالية ـ وليس المخاطر السياسية التي تتضاءل بالمقارنة بها ـ نصب أعينهم، وهم يعملون من أجل التوصل لتسوية متعلقة بتقليص العجز في الموازنة، الذي سيجعل الولايات المتحدة قائمة على أسس مالية أكثر متانة. ترافيس شارب أستاذ مساعد لشؤون الأبحاث بـ"مركز الأمن الأميركي الجديد" ينشر بترتيب خاص مع خدمة" كريستيان ساينس مونيتور"