كنت سأكتب هذا الأسبوع عن الأحزاب السياسة ودورها في تخليق الحياة السياسية على ضوء ما يقع اليوم في مصر وتونس، لكني أستسمح القراء لأصحبهم إلى نوع غير مألوف من الأحزاب، ولا نقصد به المفهوم الحديث الذي ينصرف إلى مجموعة طوائف أو اجتماع مجموعات ترتبط فيما بينها بنظم وبرامج تنسق عملها للوصول إلى الحكم عن طريق الانتخاب، لكن "الحزب" هنا هو جملة مختارة من الكلام والأدعية يتلوها المرء احتسابا، في ظرف معين، وله نفس المعنى الاصطلاحي الذي لكلمة "وِرْد"؛ وقد استعملت كلمة "الحزب" بمعنى الوِرد منذ القرن السادس الهجري، عندما ظهر الشيخ عبد القادر الجيلاني، حيث أُلِّفت أحزاب كثيرة فيما بعد من أشهرها: أحزاب الشيخ أبي الحسن الشاذلي المغربي الأصل الذي توفي سنة 665هـ وهو يقطع صعيد مصر، أو في مدينة مخا اليمنية المشهورة بقهوتها اللذيذة التي يروى أنها من بركات الشيخ الشاذلي. وقبل أيام، حين كنت أهم بالسفر جواً، زرت العلامة المغربي الكبير عبد الهادي التازي في منزله، وسيرة عبد الهادي التازي الفكرية والدبلوماسية والثقافية غنية عن التعريف، تشهد له تلك الكوكبة من الأعمال الفكرية الرائعة والنادرة التي ألّفها، وذلك الشريط الطويل من الخصوصيات الذاتية والجريئة لعالم يعشق الكتابة بالحركة الدائبة، لتكون في جملتها سفراً كبيراًًً ستقرأ فيه الأجيال دروساً من الجهد والبذل العلميين، حيث خلف أكثر من خمسين مؤلفاً بعضها في العشرات من الأجزاء ككتاب "الدبلوماسية". أهدى لي عبد الهادي التازي كتيِّباً صغير الحجم فيه آيات من المتعة وسمّاه "حزب الجو"، واستغرقت كتابته كما حكى لي عشر سنوات، وهو من أفرد وأعجب ما قرأت. الكثير منا سمع عن "حزب البحر" للإمام أبي الحسن الشاذلي، وهو الورد الكامل الذي يتلوه أصحاب الشيخ بعد صلاة الصبح من كل يوم، قبل استقبال أعمالهم اليومية أملاً في توفيق الله... كما اشتهر عندهم "حزب البحر" الذي كتبه الشيخ وهو يعبر البحر الأحمر لأداء مناسك الحج، ويقرأه أصحابه على متن المركب وقت العصر من كل يوم ما داموا يعيشون بين الماء والسماء، وكان أول من نقل نصوص هذا الحزب إلى المغرب الأقصى الرحالة ابن بطوطة الطنجي بمناسبة حديثه عن معالم الإسكندرية. وقد عرف عن رجال الأسطول المغربي أنهم يستظهرون "حزب البحر" ويقومون بتلاوته في الوقت المحدد، بل نجد في بعض المراسيم الملكية التي تمنح للرؤساء البحريين المغاربة الأوامر الصادرة لهم بملازمة قراءة هذا الحزب الذي لا يخفى أنه توسل للتحصن من القراصنة والمعتدين. وهذا يحيلنا إلى مكانة الأوراد والتصوف في المجتمع المغربي وتأثيره على سلاطينه، فهذا يوسف بن تاشفين، أعظم ملوك المرابطين يحكى أنه كان ينحو منحى أهل التصوف في ملبسه ومأكله وتسيير شؤون الدولة المرابطية؛ كما أن محمد بن تومرت، إمام الموحدين، اعتمد على مؤلفات أبي حامد الغزالي لينازع بها السلطان المرابطي، وصفي الدين بن أبي منصور أورد أن يعقوب المنصور تخلى عن ملكه واشتغل بالتصوف في آخر حياته، كما أن دولة بني مرين تأثرت بالتصوف إلى حد بعيد حيث شهد القرن السابع الهجري أعظم التآليف والمصنفات الصوفية؛ أما الأشراف السعوديون الذين انطلقوا من زاوية جزولة، فإنهم لم يأخذوا الملك إلا من باب شيوخهم الجزوليين. وفيما يتعلق بالدولة العلوية، فقد ذكر الإفراني أن ظهورها بشّر به الإمام الصوفي ابن طاهر الحسني. وللسلطان المولى عبد الحفيظ مراسلات مع شيخ الطريقة التيجانية أبي العباس أحمد سكيرج. ولا ننسى هنا المراسيم الدينية التي ما زالت قائمة إلى يومنا هذا في المغرب والموسومة بالطابع الصوفي الروحاني في إقامة الموائد وفتح الباب لطوائف الأمداح النبوية الشريفة. وهكذا نرى أن التصوف الذي كان في المغرب منذ القرن الثالث عشر الميلادي والذي كان يهدف إلى نشر الإسلام فيما وراء الحواضر، انتقل من الإطار الدعوي إلى الإطار السياسي في عهد الموحدين، ليكتمل هذا البنيان مع أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي الذي يعتبر أول مؤسس لطريقة صوفية في المغرب حتى أصبحت مع مثيلاتها مؤهلة لتزويد البلاد بنظام الحكم. وما يطبع الزوايا الصوفية في المغرب هو تمجيد ثنائية الشيخ والمريد. وهذا ما يثير عدة تحفظات، لأن هناك مبالغات في النظر إلى الشيخ والرجوع إليه في شحن بطارية الإيمان والمراقبة والمشارطة، كما أن كيفية التنشئة السياسية التي يُزوَّدُ بها المريدون تجعلهم يكتفون بالانشغال بالطقوس الدينية والشعائرية بعيداً عن الخوض في متاهات السياسة. كل الطرق الصوفية في المغرب، من كتانية وبودشيشية وريسونية وعلوية وغيرها، لها أدعية وأوراد معيّنة وخاصة بها... لكن "حزب الجو" لعبد الهادي التازي هو وِرد لرجل عالم غير متصوف، واقتباس وابتكار ألهمه إليه ما كان يعرض له في بعض مراحل حياته الجوية (التي تجاوزت 1400 رحلة كما ذكر لي)، من تأملات وتلاوات وقراءات، لاسيما في حالات التوجه والتعلق والتمني والترجي. ومن أروع ما قرأته في حزبه هذا قوله مثلا: "اللهم إننا ضيوفك على متن هذه الأجواء، فنعوذ بك مما يغضبك في هذا المقام... اللهم أجنبني في سفري رفيق طريق لا يؤتمن، وصاحب جنب لا يرحم، فأنت تعلم أن الأسفار أمن وأمان وروح وريحان، وعلم وعرفان... اللهم إنا نضرع إليك أن تحفنا بألطافك الخفية، فنحن كما ترى، ريشة لا أرض لها تعتمد عليها، ولا سبب يمدها إلى السماء، ولا رائد لما بين يديها ولما خلفها. أسراب من سحاب تخترقها شواهق الجبال، ومجاهل من صحرائك مقفرة، ومحيطات من بحارك موحشة... هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم".