فيما يبدو أنه نهاية لتاريخ طويل من الانتخابات المشوبة بالتزوير والتلاعب ببطاقات الاقتراع ونتائج الفرز وبأعمال العنف، تحرص الآن نيجيريا، أكبر دول القارة الأفريقية (150 مليون نسمة)، على القطيعة مع ماضيها في هذا المجال، بتنظيم سلسلة انتخابات تريد لها أن تكون نموذجاً أفريقياً جديداً في النزاهة والشفافية. فقد نظمت في بداية الأسبوع الماضي انتخابات عامة حازت على رضا غالبية المراقبين والمتنافسين والشارع الوطني، ثم أجرت أول أمس السبت اقتراعاً رئاسياً دعي للمشاركة فيه نحو 73 مليون ناخب للتصويت في 120 ألف مركز اقتراع في كافة أقاليم البلاد؛ من مستنقعات المنجروف المنتجة للنفط والمدن المزدحمة على الساحل الجنوبي، إلى أطراف الصحراء الكبرى في الشمال. وفي هذه الانتخابات تنافس عشرون مرشحاً على كرسي الرئاسة النيجيرية، منهم محمد بخاري الحاكم العسكري السابق للبلاد والذي يتمتع بأغلبية كبيرة في الشمال المسلم، ونور ريبادو الذي قاد وكالة مكافحة الفساد وعُرف بنزاهته، وإبراهيم شكارو الحاكم المنتهية فترته لولاية "كانو" في الشمال أيضاً. أما المرشح الأبرز والأوفر حظاً في الفوز بالرئاسة، والذي يتوقع أن يتقدم المتنافسين في الشوط الثاني من الاقتراع، إن لم يستطع حسم المنافسة لصالحه في شوطها الأول، فهو الرئيس الحالي جودلاك جوناثان. فقد تولى رئاسة البلاد في فبراير 2010، خلال مرض الرئيس السابق عمر يارادوا الذي توفي فيه بعد ذلك، وهو أحد الوجوه الجديدة نسبياً إذ لا يتجاوز عمره 54 سنة، وذو خلفية مدنية خلافاً لرؤساء نيجيريا السابقين الذين كثيراً ما كانت خلفياتهم العسكرية تقودهم إلى تصفية الخصوم. وإلى ذلك فإن جوناثان يجسد آمال قطاع واسع من الشباب النيجيري في وصول رجل من أبناء الطبقة الوسطى إلى السلطة. هذا وينتمي جوناثان إلى الجنوب المسيحي (40 في المئة)، وينحدر من عرقية "إيجاو" الكاثوليكية التي تمثل نحو 10 في المئة من السكان، وكان ميلاده في موطنها الرئيسي بمنطقة "أوتيكي" في ولاية "بايلسا"، عام 1957، لعائلة متوسطة الحال تحترف بناء الزوارق الخشبية الصغيرة. وهناك تلقّى تعليمه الابتدائي والجامعي، وتابع دراسة الدكتوراه في علم الأحياء بجامعة "بورت هاركورت" الحكومية المحلية، وعمل مفتشاً في التعليم الثانوي، ثم محاضراً جامعياً، قبل أن يدخل معترك السياسة متأخراً (عام 1998). وبالطبع فقد تأثرت المسيرة السياسية لجوناثان بالتوازنات العرقية والإقليمية والدينية؛ إذ انتخب لأول مرة، عن "حزب الشعب الديمقراطي" الحاكم، نائباً لرئيس ولاية "بايلسا" النفطية في الجنوب عام 1999، وأعيد انتخابه لنفس المنصب عام 2004، لكن حاكم الولاية أقيل في العام التالي إثر اتهامه بتبييض أموال، فحل محله جوناثان الذي ترأس الولاية حتى عام 2007. ومرة أخرى تدفع الأحداث بجوناثان إلى الواجهة السياسية، فقد قرر "حزب الشعب الديمقراطي" اختيار يارادوا مرشحاً عنه لانتخابات الرئاسة عام 2007، واختار جوناثان نائباً له، ضمن توافق للتناوب على الرئاسة في نيجيريا، حيث يكون الرئيس من طائفةٍ (الشمال المسلم أو الجنوب المسيحي) ونائبه من الطائفة الأخرى. وهي صيغة للحكم السياسي غير مكتوبة، وقد وضعها "حزب الشعب الديمقراطي" ويتواصل العمل بها منذ 12 عاماً، وتعتمد على التوازن الديموغرافي بين الجنوب والشمال، حيث يتوزع سكان نيجيريا على 250 قومية، أكبرها قبائل الهوسا والفولان المسلمة (29 في المئة)، تليها قبائل اليوربا المسيحية (21 في المئة). وكان الجنرال أوباسانجو، وهو مسيحي من قبائل اليوربا، قد أمضى ثماني سنوات في الحكم خلال الفترة التي تلت عودة الديمقراطية في نيجيريا عام 1999، ثم اختار يارادوا (مسلم من الشمال) لخلافته في المنصب الرئاسي، ففاز بالانتخابات الرئاسية في مايو 2007، لكن المرض لم يمهله طويلا، فأقعده للعلاج في الداخل قبل أن يغادر البلاد طلباً للاستشفاء في الخارج، وبعدئذ قرر البرلمان نقل صلاحياته إلى نائبه جوناثان الذي أصبح في فبراير 2010 رئيساً بالوكالة، ثم بحكم الدستور كذلك أصبح رئيساً في مايو عقب وفاة يارادوا. وخلال تلك الفترة أدى جوناثان مهام منصبه دون ضجيج يذكر، فلم يُظهِر صرامةً في قراراته، لكنه لم يتلطخ بقضايا الفساد، ولم يبد حرصاً على السلطة أو تعطشا لاستكمال صلاحياتها. وبالطبع كان عليه أن يعالج كثيراً من الاختلالات والقضايا التي لم يترك المرض ليارادوا فرصة المضي في حلها، وعلى رأسها قضية التمرد المسلح في دلتا النيجر، والذي شكل تهديداً للإنتاج البترولي في أكبر بلد نفطي إفريقي حيث تمثل عائدات النفط 70 في المئة من مداخيل الخزينة العامة النيجيرية. ورغم أن جوناثان ينتمي لهذه المنطقة الغنية بالبترول والمضطربة بالفقر والصراعات، فإنه لم يستطع إنهاء حركة التمرد فيها. وكذلك الأمر بالنسبة لملف العنف الطائفي، لاسيما في منطقة "جوس" بوسط البلاد، وغيرهما من الملفات الأخرى؛ مثل مشكلة البطالة، والإصلاح الاقتصادي، ومحاربة الفساد المستشري، وإرساء دولة القانون، وتطوير الخدمات العامة، وتوسيع وعصرنة البنى التحتية. ورغم تلك التجربة غير المميزة بإنجازات كبيرة، فإن الكثيرين ينظرون إلى جوناثان باعتباره رمزاً للتغيير في نيجيريا، قائلين إن أكثر ما يجذبهم إليه هو حديثه عن مستقبل البلاد وليس عن خلافات الماضي وخصوماته التي غالباً ما يقع الساسة أسرى لها، علاوة على لغة خطابه الهادئة والعقلانية، وتحاشيه تصريحات التهديد والوعيد التي طالما استخدمها جنرالات نيجيريا السابقين الذين ملّ الشعب أحاديثهم وتجارب حكمهم غير الديمقراطية. إن الإبحار بنيجيريا على قوارب الديمقراطية نحو المستقبل، عملية شاقة وغير مضمونة النتائج تماماً، لكن إصرار جوناثان على تنظيم الانتخابات الأخيرة بأقصى شفافية ممكنة، سواء البرلمانية التي خسر حزبه بعض المقاعد فيها وإن حافظ على موقع الصدارة، أو الرئاسية التي يتصدرها هو شخصياً... تمثل نقطة مهمة تنضاف إلى رصيد جوناثان السياسي في بلد يبدو متعطشاً إلى زعامة شابة؛ مدنية وديمقراطية. محمد ولد المنى