لست على إلمام بالأدب الليبيّ يتيح لي الكتابة عنه. لكنْ، ومن موقع التحيّة لمعاناة الليبيّين اليوم، في شرق بلادهم وغربها، آثرت أن أستعرض ما كتبته الصحف عن أدب ليبيا وثقافتها، وهما بعض الأمور الكثيرة التي حجبها حكم العقيد القذّافي المديد عن العالم. فقد أعلمتنا الكاتبة السوريّة غالية قبّاني مؤخراً أنّ أحد نشاطات معرض لندن للكتاب كان استضافة الأدب الليبيّ، برعاية من مجلّة "بانيبال" التي خصّصت له ملفاً في عددها الأخير. ويبدو أنّ ملفّ المجلّة، كما تضيف قبّاني، ركّز على الكتابة السرديّة، على أن يتبعه ملفّ آخر عن الشعر في ليبيا. وقد استضاف الحوار المفتوح الذي شهده النشاط المذكور "بعض الكتّاب الليبييّن المقيمين في العاصمة البريطانيّة لندن، ممّن وردت نصوصهم في الملفّ، وأداره أيضاً صموئيل شمعون الذي انطلق في مداخلته من حقيقة أن الأدب الليبيّ، مثله مثل الأدب في بلدان عربيّة أخرى، كاليمن وتونس والسودان مثالاً، مهمّش تاريخيّاً، ويندر أن نجد نصوصاً للكتّاب القادمين من تلك المجتمعات في المجلاّت الأدبيّة المتخصّصة أو في دور النشر العربيّة الشهيرة في السبعينيات والثمانينيات". وترسم الكاتبة السوريّة هذه اللوحة الموجزة عن الأدب الليبيّ: "ليبيا ولدت حديثاً قياساً بدول أخرى في المنطقة، وانبثقت من الصحراء، يقول القاصّ جمعة بوكليب الذي كان يردّد وهو في ليبيا مقولة: "لن تكون لدينا رواية إلا إذا امتلكنا نهراً وقطاراً"، لأنّ الرواية ابنة المدينة (...) من جهة أخرى، كانت البيئة المدينيّة الحديثة لذلك البلد، وراء هيمنة القصّة القصيرة على المشهد السرديّ في ليبيا، وتحدّدت كتابة الرواية بأدباء مثل إبراهيم الكوني، وأحمد إبراهيم فقيه، وهشام مطر، ووفاء بوعيسى المقيمة في هولندا، والتي استهلّت نشاطها الكتابيّ برواية واحدة لتّتجه مثل بقيّة زملائها إلى كتابة القصّة القصيرة. إلاّ أن أوّل كاتب متميّز يمكن أن ننسب إليه الأدب الليبيّ الحديث هو كامل حسم المقهور، الذي شكّلت مجموعته القصصيّة الأولى (أربع عشرة قصّة من مدينتي) بداية القصّة القصيرة في ليبيا كفنّ أدبيّ يتحرّى الدقّة في الشكل والمضمون معاً، وكان ذلك آخر الخمسينيات من القرن الماضي". وتبعاً للمرجع نفسه، يُنقل عن القاصّ غازي القبلاوي، وهو طبيب وجرّاح أصدر مجموعتين قصصيّتين، أنّ الإنترنت ساهم في إيصال صوت الليبيّين إلى العالم، وأنّ ذلك يعود تحديداً إلى 1998، عندما دخلت هذه الخدمة إلى ليبيا، فولد جيل جديد يكتب وينشر أعماله ويوصل صوته للآخرين، بعد أن كان النشر صعباً داخل ليبيا وخارجها". وفي الفترة نفسها "بدأ يسافر ويحضر المهرجانات الثقافيّة". ونعرف من الكاتبين الليبيّين عمر أبو القاسم الككلي وابراهيم حميدان أنّه "في عقد الثمانينيات تقلّص حضور القصّة في الساحة الأدبيّة إلى حدّ كبير جدّاً، بفعل الاعتقالات التي حدثت منذ أواسط السبعينيات في أوساط الأدباء والمثقّفين الشباب، الذين كان من بينهم ثلاثة من كتّاب القصّة هم: عبد السلام شهاب (توقف عن الكتابة بسبب محنة السجن) وجمعة بوكليب (توقّف ولم يعد إلى الكتابة إلا بعد ما يقارب عشرين سنة بعد الخروج من السجن) وعمر أبوالقاسم الككلي"، وأنّه "توقّف عن الكتابة عدد مماثل تقريباً من كتّاب القصّة ممّن نجوا من الاعتقال، أهمّهم محمد الزنتاني والطاهر الدويني". ونقرأ لفخري صالح أنّ هجرة العقول إلى خارج ليبيا، بدأت "في فترة السبعينيات والثمانينيات، بعد أن استطاع القذّافي إعادة تشكيل المناهج التعليميّة، واستمال ضعاف النفوس من المثقّفين والأكاديميّين ليهلّلوا بمديح أفكاره ورؤيته العبقريّة". لكنّه يضيف: "على الضفّة الأخرى، أي في المنافي الكثيرة المتباعدة التي لجأ إليها المثقّفون الليبيّون للحفاظ على رؤوسهم والنجاة بإنسانيّتهم، تفتّحت مواهب كبيرة فرضت حضورها على المشهد الثقافيّ العربيّ، بل إن بعضها أصبح جزءاً من ميراث الثقافة الإنسانيّة المعاصر، عبر الكتابة بلغات أخرى غير العربيّة، وخصوصاً باللغة الإنجليزيّة. ويمكن أن نمثّل على ذلك بأسماء الروائيّ هشام مطر والشاعر والمترجم البارز خالد مطاوع الذي نذر نفسه لترجمة الأدب العربيّ، الشعر منه خصوصاً، إلى اللغة الإنجليزيّة". وتعرّفنا الكاتبة الأردنيّة كفاح درويش براشد السنوسي الذي تسمّيه "أمير الثورة الليبيّة"، مع أنه لم يكن مقاتلاً أو قائداً سياسيّاً. فالسنوسي "كان شاعراً سلاحه القلم (...) رأى فيه نظام القذّافي سلاحاً خطيراً يهدّد وجوده، فكان القرار بعزله وسجنه ومحاولة قتل قلمه". وهي تعرّج في المقال نفسه على شاعر آخر هو حبيب الهوني الذي "حُكم عليه بالسجن لمدّة عشرين سنة نتيجة مشاركته في الحركة الطلابيّة في بنغازي عامي 1975 و1976"، كما تذكر الكاتب المسرحيّ منصور بوشناف، وهو الآخر "حُكم عليه بالسجن لمدّة 15سنة أثناء عرضه لمسرحيّتين، إحداهما تحت عنوان "الجرذان تحكم المدينة" وهي تقوم بنقد الاستبداد والظلم". أمّا السنوسي فاتّهم بـ"مؤامرة لقلب نظام القذافي عام 1970 وحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات". وتتناول درويش "أدب السجون" في ليبيا، "إذ لا تخلو قصيدة من قصائد هؤلاء الشعراء من مفردات السجن والزنازين والأقفال". وتعرض الكاتبة اللبنانيّة مودي بيطار، تحت عنوان "رواية الأدب الليبيّ المختفي" لعملي هشام مطر الروائيّين المنشورين بالانجليزيّة، فنتعرّف إلى أنّ مطر، ابن الأربعين عاماً، ولد في نيويورك لأب عمل في بعثة ليبيا الديبلوماسيّة في الأمم المتّحدة. وبحسب ما تضيف الكاتبة: "تحوّل الوالد معارضاً وعاش مع أسرته في القاهرة فتم خطفه عام 1990 وتسلّيمه إلى النظام الليبيّ". ويبدو أنّ تجربة والده ومصيره، إذ يُقدّر أنّه قضى في جريمة سجن أبو سليم، تحوّلاً إلى الهمّ المفتاحيّ لنشاطه الإبداعيّ. لقد أدّت الانتفاضة الليبيّة إلى تعريفنا بكلّ هذا وبغيره الكثير. وقبل ذاك، كان دأب النظام أن يقنعنا أنّ العقيد القذّافي هو أديب ليبيا الأوحد مثلما هو قائدها الأوحد وحكيمها الأوحد. إنّ طاقة الاستبداد على التجهيل تضارع قدرته على إنتاج الألم.