واجَه سؤالُ الدين لدى الأوروبيين منذ القرن السابع عشر تحدياتٍ ما واجهها الدين في عالَم المسلمين إلاّ في القرن العشرين. فقد بدأ الأمر لديهم بتحديين: تحدي الصراع على سلطة الكنيسة، وتحدي الصراع على تاريخية العهدين القديم والجديد. في التحدي الأول خرجت البروتستانتية على سلطة بابا روما. وفي التحدي الثاني تكاثرت البحوث حول أصالة العهدَين أو تاريخيتهما. قالت البروتستانتية إنّ الكنيسة لا تمتلكُ الدين ولا تحتكر تفسير نصوصه، وإنما ينبغي العودةُ في الأُمور كُلِّها إلى جماعات المؤمنين وأفرادهم، لأنّ المسألة تتعلق بالاعتقاد الشخصي والعامّ. وقال علماءُ العهدَين الذين سيطرت في أوساطهم البحوث الفيلولوجية إنه ينبغي أن تكون هناك تفرقة بين الدين بوصفه إيماناً واعتقاداً، والنصوص المقدَّسة التي هي بُنىً تاريخية يجب أن تخضع- كسائر النصوص- للبحوث النقدية، من حيث التأريخ والتزمين ودراسة تطورات الأسفار. وجاءت المرحلةُ الثانية مع كتاب الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط في القرن الثامن عشر: "الدين في حدود العقل وحده"، وكتابه الآخر: "مقدمة لكل ميتافيزيقا مُقْبلة". وقد أراد كانط إعادة البحث الديني إلى أُصوله الاعتقادية الإيمانية والعقلية، وتجاوُز الصراع على مسألتي الكنيسة والبُنى اللغوية للنصوص الدينية. فالدين في الأصل والجوهر فكرةٌ خلاصيةٌ، وله وظائفُ أخلاقيةٌ أساسية، وكلا الأمرين ينبغي عدمُ الإسراف في "عقلنتهما"، وعدمُ إخراجهما من حيّز البحوث العقلانية والنقدية، من أجل فهم وظائفهما الشعورية والاجتماعية. وقد أدّت كتاباتُ الفلاسفة الوضعيين والأنثروبولوجيين في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، إلى التركيز على وظائف الدين؛ لذلك ظهرت مجدداً الاهتماماتُ بالمنظومة الدينية وعناصرها، وبالمؤسسة الدينية ووظائفها. فما هو الدين وما هي غاياتُه؟ كان هناك من قال إنه لمواجهة الموت، ومن قال إنه للتمكين من الحياة المتوازنة، ومن قال إنه تفسيرٌ للكون وفهمٌ له. وإذا كانت هذه الآراءُ كُلُّها غائية؛ فإنها لا تستهدف الأفراد في جوانب تأثيراتها البارزة، بل تستهدف الجماعات والمجتمعات. ومن هنا تأتي ضرورة قراءة تاريخ المؤسسة الدينية، رغم النفور المشهود من السطوة السابقة للكنيسة الكاثوليكية. فالمنظومةُ الدينيةُ التي تتقصد "الخلاص" تتكون من: الفكرة العليا أو الرؤية الشاملة للكون والعالم (العقائد)، والعبادات والشعائر، والمنظومة الأخلاقية، والمؤسسة الدينية، وجماعة المؤمنين التي تقول بهذه الأُمور الأربعة. وهكذا صارت المنظومة اليهودية المسيحية نموذجاً تُقاسُ سائر المنظومات عليه، فجرى الحديث عن المنظومات الأُخرى باعتبارها ديناً أو غير دين أو ديانة للبدائيين، بناءً على مدى توافر العناصر السالفة الذكر، وهل تستهدف "الخلاص" أو لا تستهدفُه. فالبوذية والشنتو مثلاً، لا تتوافر فيهما الفكرة العليا بوضوح، والهندوسية ليس فيها تفرقةٌ حاسمةٌ بين الإلهي والإنساني، والإسلام لا تحضُرُ فيه بقوةٍ فكرة الخلاص العجائبي.. إلخ. ومع رودلف أوتو، البروتستانتي الألماني في القرن العشرين، دخلت نظرياتُ الدين ورؤاه المرحلة الثالثة، في فكرة المقدَّس، بمعنى أنّ الدين فطرةٌ وإحساسٌ بالرهبة والعظمة والجلال تجاه الكون وخالقه، بغضّ النظر عن مسألة الخلاص، وعن مسألة المؤسَّسة التي تُديرُ شؤونَ الخلاص، بحسب ما ذهبت إليه الكاثوليكية. وعرف المسلمون رؤى وبحوث المرحلتين الأولى والثانية من خلال رحمة الله الهندي، في كتابه "إظهار الحقّ"، والذي يُجادلُ لاهوتيي الأنجليكانية البروتستانتية البريطانيين الذين اطّلع على بحوثهم في أواسط القرن التاسع عشر، وانصبّ جدالُهُ معهم على أمرين: العقائد الخلاصية التي تُصادمُ العقل والحسَّ السليم (التجسد والصلب والفداء)، وأنّ أسفار العهدين مُغرقةٌ في التاريخية والاصطناع، ولا يمكن أن تكونَ وحياً ما دام العهد القديم (بحسب القراءات الفيلولوجية) إنما ظهر خلال ثمانمائة عام، وما دام العهد الجديد هو قصةٌ لحياة المسيح كما تصورها بعض المسيحيين بعد مائة سنةٍ على وفاته أو رفْعه. وعندما كان "رحمةُ الله ينشر كتابه بلغاتٍ إسلاميةٍ مختلفةٍ، ويحظى باستحسانٍ كبيرٍ من جانب المسلمين؛ ظهرت أُطروحة نولدكه: "تاريخ القرآن" (الصيغة الأولى 1859)، والتي أخضع فيها النصَّ لفيلولوجيةٍ مشرذِمةٍ ومُدمِّرةٍ، كما فعل هو زميلُهُ فلها وزن مع نصوص العهدين القديم والجديد. وقد تنبَّهَ العلاّمةُ الهندي شبلي النعماني إلى أنّ المسارين: الفيلولوجي والجدالي، لا يخدمان الإسلام وقضيته حتّى في مكافحة التبشير، فانصرف لتطوير مجالٍ بحثيٍ جديدٍ سمّاه: علم الكلام الجديد، وفيه يتخلَّى النعماني عن مباحث الجوهر والعَرَض، وعن طرائق المنطق الأرسطي، ومسألة الذات والصفات، والقَدَر والجبر، ليُدْخِلَ في علم التوحيد الاهتمامات العصرية (في أواخر القرن التاسع عشر)، ومن عوالم تطورات العلوم، إلى أفهام السُنَن والأخلاق، والرحمة والعناية. وما جرؤ محمد عبده في "رسالة التوحيد" على ما جرؤ عليه النُعماني، لكنه تخفَّفَ من كثيرٍ من تدقيقات المتكلمين وجدالاتهم. ومضى شيخ الإسلام مصطفى صبري قُدُماً على خُطى النُعماني، مع رفضٍ أشدّ للتغريب في المجال العَقَدي، وللتغريب في المجال الديني والاجتماعي عامة. ويدخل العالم في العقود الأخيرة مرحلةٍ جديدةٍ هي الرابعة، فيما يتعلق بمسألة الدين، عنوانُها الأخلاق والقِيم الخاصة والعامة. فالأديان الكبرى تملك منظومات أخلاقية، والتشابُهُ أكبر في الدائرة الإسلامية مع دوائر أتْباع الديانات الأُخرى في هذا الملفّ. فالقرآن الكريم يدعو إلى التعارُف، بل جعله غاية وفضيلة كبرى. وبذلك يصبح "الخير العام" رأْساً بين الفضائل، إضافةً إلى الرحمة والمساواة والحرية والعدالة والكرامة. لكنْ عرضت هنا ومنذ عقود مسألةٌ مهمةُ تعني المسلمين خاصة. فالسؤال الأخلاقي هو المجال الذي يمكن أن يحصل فيه التلاقي بين المسلمين والعالم، وعلى أساس مقولة هانز كينغ: لا سلام عالمي دونما سلامٍ بين الأديان، ولا سلام بين الأديان دونما تَلاقٍ على أُسُس أخلاقية، وهكذا لا سلام عالمي بدون أخلاق عالمية. إنّ المشكلة هنا أنّ عدة اتجاهاتٍ إسلاميةٍ حديثةٍ ومُعاصرة، تربط بين الدين والشأن العام ربطاً مُحْكَماً، عبر القول بأنّ الإسلام يملك مذهباً سياسياً بمقتضى روحه ونصوصه، وأنّ ذلك المذهب جزءٌ من التكليف الإلهي. وتجلّى ذلك عند الشيعة في نظرية الإمامة، وعند السنّة خلال العقود الأخيرة في الحاكمية والدولة الإسلامية. وفي نظر ذوي الاتجاهات الصحوية هذه؛ فإنّ لهذه الرؤية علاقةً بالأخلاق، أخلاق العدالة والرحمة بمعنييهما الإسلاميين الخالصين. وهناك من حاول التوفيق بين الأمرين: أمر النظام الإسلامي، والآخَر العالمي، بإقامة دساتير وإعلانات إسلامية، ثم محاولة التوفيق بينها وبين المنظومات السائدة في عالم اليوم. وهو اتجاهٌ ظهرت له بعضُ الفوائد من حيث التهدئة والانضباط. لكنْ بقيت إشكالية "التكليف الإلهي"، حتّى في مسائل الشأن العام والعلاقات بالدول والأُمم والثقافات الأُخرى، قائمة. إذ بقيت لها حدودٌ ذات أبعاد دينية، وليست مصلحية أو اصطلاحية. وفي العقدين الأخيرين ظهرت أُطروحة "الدولة المدنية" التي تكاثر أنصارُها، وإن يكن هناك اختلافٌ باقٍ على فلسفتها الكلية وبعض مضامينها. يدخل العالَم المرحلة الرابعة في تأمل الدين ووظائفه وتأثيراته الرمزية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية. وهي مرحلةٌ قد تكون مجال تلاقٍ كبيرٍ بين الإسلام والعالم، ما يتطلب روحاً نهضوياً، وشجاعةً في الرؤية والسلوك. وهذه الأُمور ليست ضروريةً للمسلمين فقط؛ بل إنّ مفكري الديانات الكبرى جميعاً يبحثون عن التلاؤم والتلاقي والتقارب، وسط تحدي الأصوليات والعولمة معاً. والهدف دائماً: المشاركة الفاعلة في عالم العصر، وعصر العالم.